09/08/2011

صعوداً نحو الماء

قراءة في الديوان الزجلي - ريحة البلاد خضرا - لمؤلفه الدكتور عبد المالك المومني


بإصداره "ريحة لبلاد خضرا"، يزف الكاتب المغربي الأصيل عبد المالك المومني إضافة نوعية لقراء الأدب عامة ومحبي الشعر العامي خاصة، ويوشح صدر الزجل المغربي بديوان مضمخ بعطر الشجا والشجن، وأريج التاريخ ورائحة الوطن. ديوان ينضح بنفحات اللوعة ونسائم الصبابة والعشق، ويتغنى بالمكان المحبوب والمأمول كما لم يفعل ذلك عاشق أبدا في مدح المكان مسقط الرأس و القلب

ريحة لبلاد خضرا حنين مشتاق مفارق، وابتهالات متيم متبتل في محراب المكابدات التي تكاد تكون جمرات تذيق القلب ما لم يذق قيس ليلى فإذا هي بسحر الشاعر كلمات من ماء الأشواق تطفئ لظى الظمأى لماء- مولاتي لالة خضرا -

ديوان إذن قد لا يفهم كنهه إلا من احترق مثل صاحبه بلهيب الغربة والفراق، وشط به المزار عن المحبوب

ريحة لبلاد خضرا كتابة على خط التماس بين الماضي والحاضر، الزمان والمكان، الأسطورة والواقع، الماء والنار
ريحة لبلاد خضرا كتابة الانصهار الفذ الذي يجعل الكاتب مكتوبا والمحبوب محبا في نفس الآن
ريحة لبلاد لا تسترجع الماضي و تتحسرعليه كزمن مفقود- فليس ما بالكاتب مجرد حنين إلى الماضي- وهي لا تستحضر الغياب - فليست للشاعر حاجة لاستحضار ما هو فيه-

في الشاعر ماضيه وحاضره / الخيال والظل/ الغيم الشارد في السماء/ والصديق العائد مع المساء/ والدار الواقفة دون أن تموت كما تموت الأشجار واقفة

لا حاجة للشاعر بهذا ولا بذاك ... فمحبوبته ملكت عليه عقله وملكته كله وملأت منه الشغاف والقلب لا يشدو حين يشدو إلا بهواها. والشاعر المحب يشم رائحتها في إطلالة الخل الوفي، وفي رفرفة الخطاف الشريد، وفي انسكاب الروح في مرايا الماء.. محبوبته الأسطورة، هي البلادوالعباد والماء والهواء، محبوبته الولية الصالحة التي رفع لها بنيان ضريح في قلبه
محبوبته خضرا هي كل ما يعرف، وهي كل ما سيعرف
هي الأمسيات الظليلات تحت الكروم، هي البئر والحليب والتمر
خضرا هي الافتتان العصي بالإنسان وبالأوطان، وبما تبقى من نبل تحت صدأ تصاريف الزمان التي أبلت كل شيء، ولكن يد بلاها لم تطل العشق الأصيل في قلب عبد المالك المومني الذي ظل مدينا لمسقط الرأس، وموطن النشأة الأولى " الركادة" بما هو فيه وما هو عليه الأن... دين لا يمكن أن يرده أو يسدده إلا بهذا الحب الجارف الذي يملك عليه حياته/كتابته
ليست خضرا إذن التي يتغنى الشاعر بفتنتها إلا موطن نشأته
قد يقول من لا يعرفها ولا يعرفه، قد يقول من لا يعرف ما فعل المحبوب بالمحب، هي مجرد عين ماء تدعى الرﯖادة، بلدة الشاعر، وماذا بعد؟ !... ليست خصرا ولا نحرا يستحق كل هذا الانخطاف
بل هي كل ذلك، وهي غير ذلك و هي أكثر من ذلك
خضرا أكثر من مجرد امرأة
خضرا رحم
خضرا حضن
خضرا وطن
خضرا هي العين التي يرى بها الشاعر حياته، ماضيه وحاضره، هذا الزجال الساحر المسحور بالمكان واللغة يجعلك تحتار من منهما أنشأ الآخر وكونه، هدهد طفولته ورعى خطاه، اهي العين/ الأم- أم هو الشاعر/ الوالد/ الساحر/-المسحور بما تراه عين الماء فيه وهي ترويه فلا يزداد إلا عطشا، وتغسله فيزداد ألقا، وتتمنع عليه فيزداد بها تعلقا
تتمنع وهي ككل محبوبة راغبة
أليست هي التي ترسل وراءه اللقالق والخطاطيف والخلان يحملون رائحتها المدوخة في رفرفة الجناح، وفي همس الكلمات حيثما عاش وحيثما كان؟... فمن منهما أنشأ الآخر وكونه؟ "خضرا" الأم أم خضرا/ الماء... ذلك ما يجعلك تحتار بين يدي هذا الشاعر المتدفق كالعين بماء الكلمات، الشاعر الذي جعل من عين ماء أسطورة ورتب لها منشأ وتاريخا، وتوجها في موكب العرائس محبوبة تغار من شعر مائها ومن أهداب عشبها ليلى قيس وبثينة ابن معمر وجولييت روميو. وهو منتش حتى الفناء في صحوه يعصر بالتذاذ عناقيد الكلام، ويصنع خمرته كما يشاء على مهل من زجل يعود بالقارئ إلى زمن الشيوخ الملهمين

هل "خضرا" أم أم أخت أم ابنة، أم هي فقط اللغة التي بها يكتب، من منهما الوالد ومن المولود... من أبدع الآخر؟ وكيف امتزجا فصارا جسدا واحدا من كلمات، لا هو إنسان ولا هي عين ماء... بل هما معاالإنسان والعين والكلمات... أو هما معا الإنسان الذي يكتب ويرى بعين الماء كل الكلمات التي لا يمكن أن يفك شفرة أسرارها إلا من شرب من ماء خضرا

السر : ... ورق الديوان/ حبر الكتابة وطائر الشعر يرفرف بأجنحته كخطاف المحبين، أو يحط كاللقلاق الزاهد على سطيحة الدار. الشاعر ينادي أحبته، بل هي "خضرا" تنادي أحبتها... لا فرق، فيعود المكان إلى ألقه الأول وألفته الحميمة على طول صفحات الديوان... خضرا المكان في كل مكان وفي كل كلمة وفي كل عبارة تتهادى في دلال أنيقة رشيقة لأن الشاعر كساها بأجمل ما لديه... كساها برداء روحه الرهيفة الحساسة، وزين المحبوبة كي تسر الناظرين كما لو أنه يفاخرهم بها متباهيا... هذه العين هي عيني أنا... خضرا عيني أنا - يكاد يقول -... فأين هي أعينكم؟... تعالوا وانظروا بعين مائي لعل كل واحد منكم ينتبه إلى أن له هو أيضا عينا أخرى يرى بها

خضرا ليست مجرد عين ماء... "خضرا" عيني الثالثة... عيني الداخلية
"خضرا عين البصيرة التي أرى بها ما لا تراه العيون المطفأة
خضرا - هبة الله - لي........لي وحدي 
وخضرا  سر الشاعر

هذا هو عالم عبد المالك المومني كما تيسر لي أن أراه من خلال قراءتي لديوانه " ريحة لبلاد خضرا". عالم لم يعد … أو يكاد ... ولعل عبد المالك المومني من الكتاب القلائل والمقلين الذين يمتلكون مفاتيح الحدائق السرية لهذا العالم ، لذلك فهم نادرا ما يفتحون أبواب هذه الحدائق للعابرين

هوعالم الطهر والصدق والوفاء لروح المكان وجوهر الإنسان. عالم أصبح أو يكاد أعز ما يطلب بين بشر فقدوا جوهرهم وفطرتهم، أو أفقدهم اللهاث وراء البريق والزيف والوهم ما تبقى فيهم من إنسانية. عالم عرف عبد المالك المومني من خلال ديوانه كيف يستعيده ويعلي نشيده صادحا بموال طويل تنصهر فيه الزغردة بالنواح والفقد بالوجد والوحشة بالأنس متغنيا بالفريدة في عينه لالة خضرا مولاة الرﯖادة

فطوبى لك أيها الكاتب المتفرد... طوبى لك أيها اللسان المغرد بمسقط شعرك "الرﯖادة" وبعينها النعسانة
طوبى لك أنت الذي بقيت وفيا للغة ووفيا للمكان ووفيا للأوطان ووفيا للإنسان... ووفيا للإيمان
طوبى لك أنت الذي بقيت عصيا على الذوبان في نهر التفاهات
وهنيئا للرﯖادة و" لالة خضرا" بديوانهما
هنيئا   للرﯖادة   بك وبأقرانك من كتاب المغرب الشرقي

 
جمال الدين حريفي

ليلة 28 شعبان 1432

30 يوليوز 2011




إبداع عبد المالك المومني


Aucun commentaire: