15/08/2012

الحاسي بين الذبول والاِبتسام


تحضر بنية الذبول والاِبتسام في المجموعة الزجليّة <<الحاسي>>، باعتبارها صفة وحالة نفسيّة عاشتها ذات الشاعر المتشظية بين الهنا والهناك، على طول قصائد المجموعة، وتتولّد هذه البنية من خلال الحضور القوي لفضاءي الريف والمدينة، اللذين كان لهما الأثر البالغ في إنضاج وإنتاج هذه التجربة الزجليّة، التي جاءت حبلى بالآمال والآلام، آثرنا أن نعبّر عنها بالذبول والاِبتسام .

فضاء المدينة :

إنه الفضاء الذي أصاب ذات الشاعر بالذبول والشحوب، وجرّعه مرارة الغربة، وحرمه لذّة اللقاء بالأهل والأصحاب. ويظهر ذلك جليا من خلال تكثيف الشاعر لمعجم يطفح بالمعاناة، ويعبّر عن سخط خفي، وكذلك علني، عن المدينة الغول : الدار البيضاء، هذه الغابة المتشابكة من الحجارة والعمارة، من الناس ومن الحديد الجامد والمتدفّق عبر شوارع إذا ابتلعتك تهت فيها، كما يصفها بذلك مليم العروسي <<الاتحاد الاشتراكي ـ ع: 145 ـ 1986 ـ ص: 4>>

وننتقي من الديوان الشواهد التالية :

ف البيضا الموج دّاني / وراني مضرور  ص:45
الدار البيضا خلّيها / رشّات الصدر لا تبكيها  ص: 55
يا البيضا طلـﯖـيني / نلحـﯖ أهلي / ف ذيك الرﯖـدة   ص: 67، 68
صدري ف البيضا قريب راشي   ص: 69
ﯖـصّابي فاجي / خوك ف اهوال  ص: 71
من دارني زلزال / درّﯖـتي لبطال / نواطيك يا لجبال   ص: 103

فكيف الخلاص إذن من كلّ هذه الآلام، وأين سيلقي الشاعر بكلّ هذه الأوزار؟ أ يطمرها بين حانات المدينة وملاهيها، وهو الحلّ السخيف الذي يتبنّاه كثير من ضعاف النفوس وصغار العقول، فتجدهم يعالجون المشكل بما هو أمرّ وأدهى؟ إنّ دهاء الشاعر وفطنته قاداه إلى اختيار الحلّ الأنسب، وتبنّي السبيل الأمثل، إنّه طريق الفنّ والإبداع. يقول:

الفنّ يفاجي به نكمّد لَجْناب
لا تكون ثقيل غرّي اقرا سيرة لَقْطاب
مول الفطنة عليه ما تنسدّ لَبْواب
لا تطمع لا تخاتل لا تـﯖـّلبك لَكْواب
لا يغرّك من تبختر ف غالي لَثْواب
لا تنذلّ لا تتملّق لا تتمسّح باعتاب
لَشْعار الزينة نشوتها فاقت لَعْناب        ص: 109

نعم، إنّه طريق الإبداع، ولاشيء غير الإبداع بإمكانه أن ينتشل الذات المأزومة من أزمتها، أمّا عدا ذلك فلن يزيد الجرح الغائر إلاّ عطانة، وهو ما ترفّعت عنه ذات الشاعر، واستعلت عن الانغماس فيه. ولم يكتف الشاعر في اختياره بهذا الموقف فحسب، وإنّما يريده أن يكون موقف كلّ من قادته الأقدار إلى أن يعيش التجربة نفسها، لذلك نجده يتحوّل إلى ناصح ومرشد في الأبيات السالفة، وكيف لا وقد فاقت تجربته مدّة عشرين سنة، كان فيها عصياً على التدجين والاِحتواء؟
لم يكن الشاعر ليدير ظهره للمدينة، أو يتنكّر لها بالرغم ممّا لاقاه فيها من أوصاب، ولم يكن ليقطع بها الصلة، تماماً كما فعل شعراء الرومنسية الذين احتجّوا على مدنهم بحدّة لكونها قمقماً للشرور المادية والمعنوية، تعمل على افتراس المشاعر الإنسانية الدافئة؛ فالصدام الحاصل بين الشاعر والمدينة لا يعني مقتاً للحضارة ووسائلها، وإنّما هو تعبير عن عدم الألفة بينه وبين الفضاء الجديد، لأنّه يعي جيّداً أنّ المدينة ليست شرّاً كلّ الشر، لهذا نجده يقدّم اعتذاره للمدينة التي علّق عليها بعضاٌ من آلامه في المجموعة. يقول :

إلا هجرتك كازا / سامحيني / هواك غربي / وانا هوايَ شرﯖـي    ص: 99،100

وممّا يزيد هذه الفكرة تأكيداً هو عدم الركون إلى تصوير اليومي البائس من حياة أهل المدينة، وما أكثره! ولم يتعرّض لمتناقضاتها، ولا لصور الزيف والضياع فيها، فهو يعلن نفوره منها وكفى، ويسجّل موقفه الخاصّ منها، لأنّه بإمكان القارئ أو أيّ زائر لهذه المدينة أن يجد فيها ضالّته ويستمرئ حياتها.

فضاء الريف :

هو الفضاء الذي يجد فيه الشاعر سلوته وينشرح فيه صدره، إنّه فضاء الابتسام الذي لم يجد الشاعر عنه بديلاً، لذلك فهو يأمر طيف خياله أن يحطّ به هناك :

طيف خيالي سوﯖ جْمالي دّيني وين تهمد لَعْصاب   ص: 110

ويشمل هذا الفضاء مسقط رأس الشاعر دوّار ميلّي، المشهور ببئره المتدفّقة في سخاء، وقد بدا الشاعر متعلّقاً بمرتع صباه، عاشقاً له حتّى الثمالة، فجاء ذكره تصريحاً أحياناً، وأحياناً أخرى تلميحاً، بحيث تتمّ الإشارة إلى ما تزخر به طبيعة الدوّار من جمال فتّان آسر. يقول :

زين ميلّي يزّيني  ص: 25
البير النشوان به راني مجبور   ص: 45
طريـﯖ الشجرة به ﯖـلبي معمور  ص: 46
ما احلى ما الحاسي / ميلّي راح راسي   ص: 64
يا اغصاني ميلي ميلي   ص: 101

هذا بالإضافة إلى أماكن أخرى خلبت ذهن الشاعر وكان لها الوقع الحسن في قلبه، تنتمي كلّها إلى أحواز بركان : الركَادة، تافوغالت، الطرشة، الـﯖـربوص، زكَزل، بوثوار ...
وقد يستغرب القارئ، ربّما، لهذا التآلف الحاصل بين الشاعر وهذا الفضاء، ويستنكر هذا الوله الذي جمعه بالأماكن المذكورة، ويعتبر هذا البوح حبّاً مزيّفاً مزعوماً، خصوصاً وهو يقف مثلاً على نبع الرﯖـادة، وقد غاض ماؤه، وذهبت نضارته، والشيء نفسه بالنسبة لكثير من الأماكن التي تغنّى الشاعر بجمالها وتاه في حبّها، فقد شحب وجهها، واستوحش فضاؤها، وأتلف زهرها وشجرها، إمّا بفعل الإهمال أو تعاقب السنين.
إنّ تعلّق الشاعر بالمكان  ههنا هو تعلّقٌ بما ما يزال موشوماً في الذاكرة، مستبدّاً بالقلب، أيّام كانت <<الخضراء>> عذراء، وأيام كانت الطبيعة متروكة على رسلها، منذورة لبارئها، ومحافظة على خلقتها الجميلة. جمال ما تزال علاماته منطبعة على قلب الشاعر حتّى وإن زالت من الواقع، وهذا ما نجده حتّى لدى الشعراء القدامى الذين وقفوا على الأطلال، وبكوا الديار، فلم يكن بكاؤهم على ما فعلته عوادي الزمن بتلك المرابع، وما أصاب جدرانها من شقوق وتصدّعات، وإنّما ما انطبع من تلك الشقوق على القلوب جرّاء هجر الحبيبات لها.
ولهذا لم يفوّت الشاعر الفرصة ليبدي أسفه على ما حلّ بهذه الربوع من تحوّلات غيّرت وجهها الحقيقي. يقول :

قرّبتك حصلت / بعّتك وحلت / آه يا عين!   ص: 84

إنّها آهات وزفرات تنبع من قلب مزّقت الغربة نياطه، تترجم رقّة إحساس الشاعر ورهافة  مشاعره، ففي الوقت الذي يعلن فيه عن تعلّقه بمسقط رأسه، وولهه بالطبيعة وما تختزنه من جمال، نجده يبدي تذمّره بما لحقها من أذى شوّه صورتها، فكان لكلّ ذلك الذبول في الطبيعة أثره البيّن في نفس الشاعر، وهكذا يصبح للغربة ههنا وجهان، البعد عن المكان وما حلّ به من أوصاب.
فإذا كان الشاعر قد انتصر عن الوجه الأول للغربة، واستطاع أن يجد لها مخرجاً، فيحوّل بذلك العبوس إلى ابتسام، فإنّ الوجه الثاني منفلت عن إرادته، لا يملك مقاليده. فما كان له إلاّ أن يتوجّه بخطابه إلى المكان، خطاب فيه كثير من الرقّة والتودّد والاستعطاف حتّى وإن كان في ظاهره أمراً أو نهياً أو استفهاماً. يقول مخاطباً نبع فزوان  :

آه يا فزوان / ماذا وجّعني حالك   ص: 128
افرح كثّر ماك  ص: 125

وكأنّه يخشى أن تجفّ مياهه، ويذهب بهاؤه، فيخيّب بذلك رجاء زوّاره

لا تخيّب فتّان / جاك من كلّ مكان    ص: 125

ويلتفت بعد ذلك إلى النبع الوسنان : عين الرﯖـادة، وكلّه رجاء وأمل أن تكثر ماءها، وتكفّ عن سباتها، لتعود إلى سابق عهدها. يقول :

آ الرﯖـادة لاه تبقاي ناعسة 

كما لم يفته أن يتوجّه بخطابه إلى نبات الصبّار، آملاً أن يحافظ هو الآخر على يناعته واخضراره. يقول :

فتّحْ نوّرْ زيدْ اخضار
حشّمتك لا تذبال لا تصفار
لا تشفّي فيّ فاقد انظار
لا تخلّي عليّ تترادف اضرار       ص: 26

وإذا كانت طبيعة الريف قد أتت عليها رياح التغيير، فإنّ هذه الرياح لم تمسس طباع أهلها، فهم على فطرتهم باقون، وبأصولهم متشبّثون، وهذه الأصالة وتلك الأخلاق هي دررٌ تزيّن أجيادهم، مارست سطوتها على الشاعر، وكانت من بين العناصر التي جعلت الشاعر يتيه حبّاً بفضاء الريف، الذي يندرج ضمنه مجموعة من الأماكن التي ما تزال محافظة على أصالتها، حتى وإن اكتسبت صفة المدنية. يقول :

واغشات دوّاري .../ الفونارة أو كي معـﯖـودة   ص: 127
بنات تازغين / مزاح ومشماش / نجازيهم وباش؟  ص: 126
مواكب مهوّدة م الـﯖـربوز / حطّة وبسمة / ذوك اريام وجدة  ص: 127

إنّ مجموعة <<الحاسي>> اسم على مسمّى، تختزن الكثير من جمالية الشعر، والكثير من أسرار صاحبها التي ارتأى أن يودعها هناك، لم ألامس في هذه الورقة إلاّ غيضاً من فيضها. ولكم أن تلقوا بدلائكم فيها، وتكرعوا من عذب قصيدها فإنّ لكم فيها شربة لا تضمؤون بعدها أبداً.

محمّد رحّو

بركان / غشت 2012

ذ. محمد رحّو ¤ بركان

ذ. محمد رحّو ¤ الأول من اليسار
حفل توقيع ديوان الحاسي
 بركان: 11 غشت 2012

2 commentaires:

Jamal Elkhalladi جمال الخلاّدي a dit…

شكراً جزيلاً لعزيزي الأستاذ محمّد رحّو على قراءته الممتعة

Anonyme a dit…

chokro laka akhi jamal 3ala tilka lforsa dahabiya lati atahtani iyaha




rahhou med