22/12/2013

قراءة في ديوان (ما يمكنش نكون أنا) لميمون الغازي


 نصّ مداخلة ألقيت في حفل توقيع ديوان (ما يمكنش نكون أنا) لميمون الغازي، الذي نظّمته (جمعية الهامش للشعر والتشكيل)، في مدينة جرسيف، مساء 21 دجنبر 2013

ميمون الغازي ـ جرسيف :  21 دجنبر 2013 

السلام عليكم جميعا و بعد 
فيسعدني أن أسهم في برنامج هذه الأمسية الثقافية, في هذه المدينة الطيبة التي أكنّ لأهلها المودة والتقدير. وأبدأ بشكر الإخوان الأفاضل في (جمعية الهامش للشعر والتشكيل) على سعيهم النبيل إلى إشاعة قيم الجمال والابداع في مدينة كرسيف. وأشكر الحضور الكرام الحارصين على متابعة الأنشطة الإبداعية ودعمها. ثم أشكر صديقي الغالي ميمون الغازي, الذي أتاح لي فرصة اللقاء بهذا الجمع الكريم, بكلمات عن ديوانه الثاني الذي نحتفي به, في هذه الأمسية جميعا.
أيتها الفضليات, أيها الأفاضل
ما كادت تمضي سنة على إصدار باكورته (خيط من شتاء), 2012, حتى أصدر مبدعنا ميمون الغازي ديوانه الثاني (ما يمكنش نكون أنا), ليصبح عاشر ديوان زجل يصدره شعراء ينتمون إلى مدينة بركان, مسقط رأس المبدع ميمون الغازي, وبه يحصل تراكم زجلي يحتاج الدارس الذي يبين ميزات متنه وما فيه من شعرية, اسهاما في تطوير الكتابة الزجلية.
يضم ديوان (ما يمكنش نكون أنا)  12  اثني عشر نصا, لم يشر شاعرنا الى أزمنة كتابتها, ولا إلى أمكنتها. وبحكم إقامة مبدعنا في مدينة نيس, فهي نصوص مكتوبة في المهجر,
يمكن اعتبار عنوان الديوان جملة اسمية تقدم فيها الخبر عن المبتدأ (ما يمكنش نكون أنا – أنا ما يمكنش نكون)  ف(أنا) مبتدأ و(ما يمكنش نكون) خبر, فيفضي بنا التأويل الى مفاد استحالة كينونة الذات.
كما يمكن اعتبار عنوان الديوان جملة فعلية, مكوّنة من العناصر التالية. (ما) النافية, والفعل المنفي (يمكنش). والفاعل المؤوّل من مضارع  كان ومعموليها, اللذين هما الضمير المستتر الذي تقديره (أنا) اسماً, و(أنا) بمعنى (أناي – ذاتي) خبراً. وفي هذه الحالة, يفضي التأويل إلى مفاد استحالة تحقق الأنا المأمولة. وشخصيا آخذ بهذا التأويل. فقد جاء في نص (ما يمكنش نكون أنا)
"هو أنا ولّى أنا هو
إلى كان هو أنا
أنا ما يمكنش نكون أنا"
ص: 28
والضمير (هو) في النص محال على (رأسي), فكأني بالشاعر يقول " إذا كان الانسان هو أنا, و أنا أعرف ما أنا عليه, فأنا لا يمكن أن أكون الأنا الإنسانية المأمولة, إذْ إنّي لم أبلغ بعد مقام الإنسان التي إليها أسعى باعتباري إنساناً شاعراً وفنّاناً."
يقول شاعرنا في نصه (لوح الوجدان)
"الحقيقة علقم مر
ثقيلة على اللسان
حلوة عسل حر
خفيفة ف الايمان
إلى اشهدت بها ضدك تبلغ مقام الإنسان"
ص: 28-29
وللقارئ أن يحدث تغييرا في بنية جملة العنوان لتنفتح أمامه تأويلات أخرى, كأن يصبح العنوان ( يمكن ما نكونش أنا).
وسيعثر قارئ الديوان بتراكيب عديدة تتطلب منه قدرا معينا من التفكير, قد ينسيه ما يمكن أن تكون تلك التراكيب قد أضمرته من شعرية. والقراء أصناف, منهم الصابر على التفكير, ومنهم الغير الصابر, والأذواق مختلفات. أما صلة الشعر بالفكر والفلسفة فعميقة, وفي القدم موغلة, ولنا في لزوميات أبي العلاء المعري خير مثال, من التراث الشعري المكتوب باللغة العربية.
وعلاقة الشعر بالفكر جلية  في هذا الديوان الذي سيطر على الشاعر فيه همّان, هما همّ (الوجود) وهمّ (الكتابة). وإذا كان القارئ ممن تعود على تلقي أزجال ذات منزع مجذوبي, مدارها الحكم والوعظيات, فإنّه لن يستسيغ نصوص (ما يمكنش نكون أنا), لما تقتضيه من إعمال الفكر وتقليب النظر. كما أن شاعرنا قد انتصر للكتابة التجريبية, وحرّر نصوصه من قيود موازين القصيدة الزجلية المتوارثة في بوادينا وحواضرنا, وصارت القصيدة عنده زجلا منثورا, يكد من أجل إيقاع وبلاغة خاصين. وهو بهذا يمضي في المسلك الذي سلكه قبله شعراء آخرون كإدريس المسناوي وأحمد لمسيح.
وذلك ما يبيح اعتبار تجربة الشاعر ميمون الغازي إضافة هامة إلى النسيج الزجلي المغربي, تحتاج وقففة متأنية لدراستها أخذا بمناهج علوم العاميات وآدابها. أما ما أنا فاعله هنا فمجرد تأملات.
ففي هذا الديوان, الذي أمتعتني قراءته, ما يربط الشاعر بمعجم ديوانه الأول, أقصد معجم "الخيط". فكلام المرأة المشتهاة شاف كخيوط الغيث :
"شافي كيف خيوط شتاء
لمرطبة وجه الأرض"
ص: 69
والخيط مستعمل للدلالة على البحث عن كنه الوجود ومنطلقه:
"لاش راس الخيط
بغينا رجليه بغينا ساسه
نرجع ال ساس الخيط
القبل الخلق
ندقق/نحقق"
ص: 72
كما يوظف الشاعر "الخيط" مشيرا إلى ولادة الحب:
"حاجة ف العمق
خيط من الضوء رفيع
واش الحب تولد
ف القلب رضيع؟"
ص: 96

كما يرد الخيط رامزا الى ثنائية الخير والشر :
"ف خيط دخان طالع يتحد بالسحاب
يطيح خيط من شتاء ف عمق المحيطات"
ص: 107
وفي النص الذي عنوانه "شمس ميمونة" يوظف الخيط لتأكيد الرمز إلى الحرية :
"الشمس رمات ضوءها موجات
ولبحر
من شدة العطش
شرب
من خيوطها جغمات"
ص: 145
وإنّ تاملات الشاعر في ملغزات وجود الإنسان, التي مدارها الحياة والروح والموت, لم تنجه من مرض الحنين في نصه الجميل "بغيت نرجع مين جيت", الذي أملته عليه ظروف الهجرة, فجاء مثقلاً بمعجم ممّا ترسّب في الذاكرة من عالم الطفولة: أدوات الحياة اليومية, وأصوات الحيوانات الأليفة, وتقاليد الطباخة, وغير ذلك. ومختوما بتوسل الشاعر أن يترك في أمان, حتى ينهي رحلته الحياتية, قافلاً إلى مرتع صباه, وبما يشبه الرثاء الذاتي :
"خلّيوني نرجع مين جيت
نكّمل جنازتي
أنا اللّي نعرف شحال نلبس ف قبري
أنا اللّي نعرف قياس شبري
أنا اللّي نعرف قيمة لحنين ف صدري"
ص: 129
كما أنّ الاستغراق في التأمل الوجودي لم يُنْسِ شاعرنا الالتفات إلى بهجة الحياة في نصّه "فينوس أو فينيسيا" المحتفي بالجمال، ففينوس إلهته، أما فينيسيا/البندقية فقد جلب الناسَ سحرها، إلى أن قال مثلهم :  "زر فينيسيا ومت"
   Voir Venise et mourir !
إنّها وجه من الحياة مشرق :
"فنيسيا
كرنفال الألوان
معرّسة
زاهية"
ص: 54
ولم يبرز الفرح, من خلال الديوان, أكثر مما برز في هذا النص الذي يعدّه صاحبه "نبضة حلم وخيال" :
"فينيسيا
ف خيالي خيال
نوّرتي كبدتي كبّرتي
وسّعتي قلبي وزدتي
طارت الفرحة بالفرحة
أكثر ما يتصور الخيال"
ص: 61
تذكرنا هذه العبارات, بنصّ شعري أسهم الفنان المرحوم "محمد عبد الوهاب" في إشاعته, ألا وهو "أغنية الجندول – في كرنفال فينيسيا", لصاحب ديوان "الملاح التائه" علي محمود طه, الذي منه .
أين من عينيّ هاتيك المجالي   يا عروس البحر يا حلم الخيال
أين عشّاقك سمّار الليالي     أين من واديك يا مهد الجمال
موكبُ الغيد وعيد الكرنفال   وسُرى الجندول في عرض القنال؟
ص : 225  (ديوان علي محمود طه – دار العودة – بيروت -  1972)
وللقارئ أن يجري المقارنة بين النصين كليهما, وهو حاصل, لا محالة, على متعة ينفرد الشعر بمنحها لمتذوقه.
قبل الختام, أخي ميمون, إنك قد غذيت التفكير, بنصوص ديوانك الثاني, حول موضوعات إنسانية أساسية, مطروحة, في راهننا, راهن العولمة وانحرافات اقتصادات السوق, من مثل ثيمات العنف, والغربة, والمقدس, والذات الفردية المؤرقة قلقاً, محاولاً أن تختطّ لك أسلوباً في الكتابة الزجلية خاصّاً سيتجلّى, لا محالة, في إبداعاتك المقبلة. أما أنا فلم ألمس,من جوهر ما عبّرتَ عنه، إلّا نزراً يسيراً. فاعذرني إذا كنت قصّرت.
أيتها الفضليات, أيها الأفاضل
أشكر لكم صبركم الجميل، وأجدّد شكري للأفاضل في (جمعية الهامش للشعر والتشكيل)، ولأهل كَرسيف الطيّبين كلّهم. وهنيئاً لصديقي الشاعر المبدع المسرحي "ميمون الغازي"...
دمت، عزيزي ميمون، فناناً متألقاً، وتقبّل منّي المودّة والتقدير
والسلام على الجمع الكريم.
بركان : 17.12.2013

جمال الخلادي.

Aucun commentaire: