09/04/2012

رياح النور أو: الوظيفة التواصلية لمتكلم بصيغة الجمع



تقديم:

يعتقد في كثير من الأحيان أن تناول ديوان زجلي أمرٌ جد يسير، بالنظر إلى لغته وأغراضِه ومَقصِدِياتِه، لكن الأمر لا يستقيم إذا نحن عمَدنا إلى بسْط العمل الأدبي (الزجل) واختيارِ الصيغةِ التي تمكِّن القارئَ العادي أولا من فهم وإدراك دلالاته، ثم انتقالِ العمل –ثانيا- إلى مستوى القراءة النقدية التي تقاربه انطلاقا من مَرجعيات مُعينة ومنطلقات فكرية ومنهجية أكاديمية، لذلك ستقوم قراءتي للديوان الزجلي "رياح النور" وِفقَ تصور أولي مُنطلق من مُسَلمات أساسية:
أولها: اختيار المقال المناسب للمقام، ما دمنا أمام ورقة تعريفية بالعمل الأدبي؛ فطبيعيٌّ أن تكون المقاربة أوليةً ذاتَ أبعاد استكشافية، ونخصُّ بالدراسة هنا مقصديةَ الإبداع ووظائفَه المتنوعة.
ثانيها: اعتبار "رياح النور" امتدادا لتجربة "شعرية" عند الزجال أحمد اليعقوبي، وتسجيلُ الاستمرار وفقَ النسقِ ذاتِه في ديوان "الكصبة والطير" .
ثالثها: إثارة بعضُ الأسئلة التي توضَعُ أرضيةً للدراسة المتأنية، من خلال التركيز على القضايا التي شَغلت بالَه في هذه المرحلة.

1- مقصدية الشاعر: بين ثبات القول والسموِ به.

تقتضي علاقةُ المبدع (المرسِل) والمتلقي وظيفةً تواصلية تحكمها معاييرُ تنتقل بين الثبات والتحول، والعلاقةُ هاته تتبنى نيةَ التفاعلِ مع المتلقي من خلال التعريف أولا بالمنجز الإبداعي، وبخلقِ فضاءٍ التلاقي بينهما.
انطلاقا من هذا التقديم، نقول إن أحمد اليعقوبي بنى رحلتَه (الزجلية) الإبداعيةَ عبر ثلاثِ مراحل:
1-1: الثبات على القول
؛ ونقصد بذلك اعترافَ الشاعر بأنه يبدع ليربطَ صلتَه بالقارئ، وهي صلةٌ عمادُها الصدقُ والقولُ الثابت والصراحة. وبغض النظر عن اللازمة التي يأتي بها الزجال غالبا في آخر قصيدته حين يعبر عن كاتب النص وتحيَّتِه للقارئ كقوله مثلا:
أحمد اليعقوبي يختمْ ذا المنظومْ وما كايَنْ مَا خيرْ مْ حَمْدْ الله خْتام
إذا بغض النظر عن مثل هذه المقاطع، استغل أحمد اليعقوبي ثقتَه بالآخر، وحاول إنشاءَ جسرِ التواصلِ عبرَه، يقول:
نْطقْتوا لي بَكْلامْ كَلبي لَهْ مَرْغاب بَثْباتَه ورْزونْ هَدَّنْ عْصابي
وقوله:
نوضْ اطْلَعْ آنَظْمي راني مْعَوَّلْ عْليكْ الّا يْديرَكْ طيري جَنْحانْ وُيَزْها بِكْ
وغيرها من المقاطع ما يبين أن الشاعر يحاول أن يؤكدَ كل مرة أنه صادِقٌ في إبداعه، لا يبتغي جزاءً ولا نفورا من متلَقيه، بل تفاعلا وتواصلا معه. ويَظهر ذلك جليا من خلال الإهداء الذي جاء على صيغة الجمع بين مجال التراث وكوْنِ النقد والبحث يقول: "إلى كل شيوخ وعشاق الزجل والمَشيخة والغِيوان... إلى كل المهتمين بتراثنا ومُحِبيه" (5) فالقضية هنا مُوكَلة للبحث الأكاديمي والتتبعِ النقدي الدقيق، وخروجُ الشاعرِ إلى هذا المنحى هو سُمُوٌّ بقضاياهُ الشعريةِ، وتنـزهٌ عن عزْل الزجل عن باقي مكونات الأدب وفنونِه. فيمكن إذن تَبنِّي الموقفِ الشخصي في النقطة الأولى، بحيث نجده يركز على الحالة النفسية الشخصية وعلاقتِها بالمحاور النصية.

1-2: السمو بالقول الشعري؛ وهنا ننتقل إلى المقال الزجَلي، قبل الخوض في القضايا العامة التي سيأتي ذكرُها لاحقا. ولا بد من الإشارة إلى انتقال الزجال أحمد اليعقوبي لمخاطبة المتلقي بألطف النداءات. ونقصد هنا نداءَه عشاقَ النور ومجْمَع الصّْواب ونُوارَ النجوم (23)، ووصفَ كلامِه بالماء الصافي دليل على صفاء العلاقة التي تربطه بالقارئ، وصفاءِ المقصدية التي يتبناها. ثم بعد ذلك يقصد ربَّه كي يجعل مقامَه في أعلى الدرجات بقول سليم وزجل قويم. (29)

1-3: المشاركة الوجدانية مع العربي والمسلم في كل أنحاء العالم، وتتجلى صفة الوجدان هنا في التكيُّف والقضايا الاجتماعيةَ، ومحاولِة نبشِ الماضي والحاضر لاستشراف مستقبل أكثرَ إضاءةً وتنويرا:
يا مَجْمَعْ لَكْلامْ يا قومْ الهَدرَه رَفْعوا مَنْ لَمْقامْ وُقِيلوا لَعْيار
إلى آخر المقطع الذي يوظف فيه الشاعرُ مرآة المجتمع للتعبير عن الحالة الراهنة في انتظار أن تمرَّ غيمةُ الشقاق نحوَ الوِفاق.

2- امتداد التجربة الزجلية بين (الكصبة والطير) و (رياح النور):
تقودنا قراءةُ الديوانِ الجديد إلى استطلاع سابِقِه، للنظر في أوجه الاختلاف والاتفاق من جهة، والتوقفِ عند التسلسل الوجداني والموضوعي بينهما.
من أجل ذلك تستوقفنا قضيةُ الإهداء في العملين كليهما، وقد اختار أحمد اليعقوبي لفظَ "الكَول" في المجموعة الأولى، ثم تحوَّلَ إلى عبارة (عُشاق الزجل) في المجموعة الثانية. لنقرأ الإهداءين:
أولا: إلى جميع شيوخ الغيوان والكَول والكصبة والكَلال ...
ثانيا: إلى كل شيوخ وعشاق الزجل والمشيخة والغيوان، إلى كل المهتمين بتراثنا ومحبيه..
فنجد أن أحمد اليعقوبي سما بكلامه من لفظ عام إلى آخرَ خاصٍّ، ومن اهتمامٍ محدود إلى تحديد فضائي أكثرَ اتساعا ووظيفة؛ إذ الحديث عن المهتمين بالتراث ومحبيه؛ يحمل دلالةَ الانفتاح على القراءات النقدية الأكاديمية والمتخصصة.
الملاحظة الثانية هي الوفاء للجمع بين اللهجة العامية المغربية والأمازيغية باعتبارهما لغتيِ التواصلِ في المنطقة قبل اللغة العربية الفصحى، وهنا تبرزُ علاقةُ الزجال بالمتلقي الذي يأخذ على عاتقه التفاعلَ مع كلِّ المكونات..
أما الملاحظة الثالثة هي اجتماع كلٍّ من الديوانين في الحقل الدلالي الخاص بالطير و الكصبة. فلا نحسُّ في المجموعة الثانية باختلاف كبير في شأن الاستمرار في نسقِ وصفِ الكصبة بكل أوصافها وأسمائها، والاعتمادِ على الطير والطائر للتحليق بكلماته عبر موسيقى الزجل، والتركيز على "طيور العز" في المجموعتين:

الكصبة والطير رياح النور
طر يا طيري ص: 8
" " " ص: 9
لا تبكي آطيري ص: 9
يا طير زناتة ص: 11
يا طيور العز ص: 17
طر يا بلادي ص: 22ك الطير الحومان ص: 29
الحجلة ص : 32
آ طيري طر ص: 34
طير العصفورة ص: 36
طيور العز ص: 88
... جا عز طياري ص: 7
(روح تعلا أعزي) ص: 9
طير الحب ص: 11
يا حبابي طيري هاو .. ص: 17
طيري يا لكرين ص: 18
طلك طيرك يحوم ص: 31
حلق أطيري ص: 50
عز اطياري ص: 53
طر آطيري ص: 63
العز مع الكير ص:65
جاك طيري يشكي ..ص: 74
طيري طر الحر ث: 95
....

إن الجمع بين الطير بصيغة المفرد، وفعل الطير والطير الموصوف بالعز وغيرها .. دلالاتٌ ذاتُ حُمولةٍ مميزَّة، تجمع بين فعل الخير والمجد حينا، ورمز التحليق إلى الأعالي بحثا عن مجد الشخصيةِ ومجد الأمة في بعض الأحيان. كما أن سبرَ أغوار الكون يجعل الشاعرَ يبحث عن مصدر النور لتَكونَ رياحا نافعةً ونسائمَ خيرٍ وبركة. لذلك فالنور أيضا يساير الشاعرَ في كلتا المجموعتين، مبرزا من خلالها مواطنَ الحقِ والخير في ذاته وفي واقعه، حيث يجعله مرادفا للنور:
اغْطَسْ فْ بْحَرْ النورْ روحْ طِرْ وعُوم اصْبَرْ وُكابَرْ لا تَسْمَعْ لَعْوام

3- القضايا بين الذاتي والموضوعي
استطاع أحمد اليعقوبي أن يجمع في ديوانه (رياح النور) بين ذاته وواقعِه، ومارسَ تحولاتِ الدلالةِ من خلال التنويعِ في التيمات الأساسيةِ التي يفرضُها المقامُ، لذلك اشتغل الشاعرُ على محاورَ ثلاثةٍ في الديوان، ويمكن تقسيمُها على الشكل التالي:

3-1- الذات بين الإبداع والاتباع:
نقصد من خلال هذا العنصرِ اكتشافَ أهمِّ مكوناتِ الذاتِ الشاعرة في ديوان رياح النور، وقد استطاع اليعقوبي أن يؤثث فضاءَ نصوصِه بالتركيز على ذاته التي تصبو الخلاصَ من واقعٍ مغشوش. وللتحكم في ذاته والتعبيرِ عن همومه اشتغل على محورين اثنين:

أولهما: الحديث عن الذات كونها ذاتا مبدعةً، تتخطى الجاهزَ العادي لإبداع القولِ والزجل الذي يعبر عن همومِه وهواجسه، ويتضح ذلك في جل القصائد التي بدأ بها ديوانَه، كأنه يقسمه بذلك إلى جانبين: ذاتي وموضوعي.

ثانيهما: الحديث عن الذات في بحثها عن الخلاص من خلال اتباع سبيلِ الموسيقى واللهفةِ على الكصبة التي تَنقُش في ذاكرته صفاتِ الأمل والحبِ والعشق والتَّوقِ إلى المستقبل والبحث عن الحبيب والزهو والطير في الأعالي للتوحد مع الذات الأخرى ...

3-2- تيمة الزمان أو (الزّْمان) لما في التعبير العامي من دلالات تعادلُ موضوعيا همومَ الدهر ونوائبَه. وهنا لا بد من الإشارة إلى كون هذا العنصر يشكل المفتاحَ الذي خلَّص من خلاله من ذاتَه إلى واقعَه؛ كأنه يبحث عن جسرِ تواصلٍ مع القارئ يجذِبُه بالكشف عن هموم الحاضر، وسماتِ الذات في آن واحد.. وتشكل قصيدةُ (ذا الزّْمانْ نورُه لُ مَّاليهْ) خيرَ مُعبرِ عن هذه الحالة، حيث يصف فيها الشاعر تغيُّرَ أحوالِ الزمان، بتغير حالاتِ القوم واتباعَ سُبل المجاملاتِ والنفاق الاجتماعي والتكسب وغيرها..ليؤكد مقولاتِه باسترسال المقالِ ذاتِه في نص (حنش اللي) ، الذي يخصصه لحالة إنسانية معينة بوصفها رمزَ النفاق والاحتيال والجشعِ والطمع واستغلال المواقف.. كما أنه يواصلُ ذكرَ تلك الأوصافِ في النصوص الموالية حتى حدودِ الصفحة 44.

3-3: تيمة الواقع العام (مغربي، عربي، إسلامي..)
كرس الشاعر مفهومَ التموقعِ في القضايا الاجتماعية المغربية، والقضايا الإسلامية ثم القضايا الإنسانيةِ، من خلال التركيز على القول المباشر، والتصريحِ بكل العقبات التي تواجه عالمَنَا المعاصرَ.
ونظرا لضيقِ المقام نسترشد فقط ببعض القضايا التي أحالنا عليها الشاعر، وهي بمثابة عناوينَ لمواضيعَ مختلفةٍ، وشرائحَ ذهنيةٍ توحي بأهمية الدلالات التي استنبَطها من واقعه وجمَعَها في عبارات مُكثفَة تَنِمُّ عن قوة التشكيل الإبداعي، ورنينِ الجرسِ الموسيقي الذي استطاع من خلاله أحمد اليعقوبي أن يحدث تأثيرا قويا في عقل المتلقي أولا من خلال المواضيع، ثم تأثيرا وجدانيا وإنسانيا من حيث تباينُ الأوزان وتنوعُ القوافي وتعددُ الأجزاء...
وبالعودة للقضايا المثارة في الديوان نشير إلى أهمها من خلال النقط التالية:
الحالة الاجتماعية للواقع المغربي: البطالة- غلاء المعيشة- واقع التعليم- واقع الصحة- الهجرة القروية- مشاكل العالم القروي- عدم إعطاء الأهمية للشواهد التعليمية...
الحالة الاجتماعية الإنسانية: تتلخص في تغيرات روح الإنسان بتغير مواقفه وتوَجُّهاته، فلم يعد ذلك الإنسانَ الوفيَ لمبادئه والمخلصَ لدينِه ووطنه وشرفه .. بل أصبح مستهترا بمكَوِّناته الأساسية، منافقا نماما و مُكثرا من الكلام (اللغو) دون فائدةٍ ولا جدوى..
واقع الأمة العربية والإسلامية ..: تتلخص كلُّها في قضية العرب الأولى، قضيةِ فلسطين، ثم العراقِ وأفغانستان.. وقد استطاع الشاعر أن يكثف بلاغيا من مقولاتِه الشعرية كي يتمكنَ من إيصال دعوتِه للنهوض بالهمَم واستنهاض العقول والبصائر للالتفاف من أجل الدفاع عن المسلم والعربي في كل أنحاء العالم..
الربيع العربي: الذي خصَّه بقصيدة (الحال صْبَحْ) كناية عن انبلاج الصبح وانبثاق إرهاصات التحرر العربي من القيود والاستعباد.. وقد استعرض في هذا النص حالةَ كل من تونس ومصر.


د. محمد دخيسي

2 commentaires:

Anonyme a dit…

تحية حب واحترام وتقدير للناقد المقتدر الدكتور محمد دخيسي على دراسته الرفيعة والمضيئة جدا للديوان منهجا ودراسة، والتي تدل على اهتمامه العلمي العميق واحترامه المميز لهذا المنتوج الشعري..
شكرا لك وألف شكر أيها العزيز.. والله يزيدك ف العز والنور يا ولد العز والنور مع محبتي الدائمة..
وشكرا جزيلا للصديق العزيز والمبدع الجميل الأستاذ جمال الخلادي على نشرها بمدونته الرائعة..
/أحمد اليعقوبي

Jamal Elkhalladi جمال الخلاّدي a dit…

بدوري أشكر الصديق سّي محمد على إرساله هذه المداخلة القيمة و السماح بنشرها على هذه المدونة الساعية إلى التعريف بما له علاقة بالزجل و الفنون الشعبية عموماً