في هذه الأمسية البهيجة، يسعدني أن أتكلّم باعتباري
واحداً ممّن أهدى إليهم الشاعر الصديق أحمد اليعقوبي ديوانه الثاني، كما فعل مع
ديوانه الأول الكَصبة والطير، أي باعتباري عاشقاً للزجل والمشيخة والغيوان،
ومحبّاً للتراث مهتمّاً به
فشكراً لشاعرنا على هذه الهدية الرائعة، وشكراً للإخوان الأفاضل في جمعية أبركان للثقافة والتراث، وجمعية الليمون للأعمال
الاجتماعية لموظفي وأعوان عمالة إقليم بركان، والمنظمة المغربية للكشافة والمرشدات فرع بركان، الذين هيأوا لنا هذا الفضاء حيث نجتمع محتفلين بديوان رياح
النور، خامس ديوان زجل، يصدر لمبدعين
من بركان الغالية، بعد الدواوين التالية همّ
الدنيا لأحمد عزيزي، والكَصبة والطير
لأحمد اليعقوبي، ويا مّا غدّا العيد ليوسف
الطاهري٬ وريحة لبلاد خضرا لعبد المالك المومني
ولا بأس بداية من التعرض لسياق صدور
الديوان المحتفى به ؛ فمتتبّع الأدبيات الشعبية، منذ بداية قرننا الحالي، يلاحظ
ظهور إصدارات هامّة في وطننا، فعلى صعيد التراث، أشير إلى صدور كتاب تاريخ الأزجال
والأمثال ، في خمسة أجزاء، من إنجاز د. محمد
بنشريفة، وهو عمل ضخم كمّاً و كيفاً . وصدور ستة دواوين، من موسوعة الملحون، تحت
إشراف د. عباس الجراري، وهي لشيوخ فطاحل هم : عبد العزيز المغراوي ، الجيلالي امثيرد ،
عبد القادر العلمي ، محمد بن علي ولد رزين، التهامي المدغري ، أحمد الكَندوز
وعلى صعيد الإبداعات الزجلية المعاصرة،
أصدرت وزارة الثقافة الأعمال الكاملة للشاعرين حسن المفتي وأحمد لمسيّح . كما تمّ
طبع ديوان كلام الغيوان متضمّناً النصوص الزجلية التي أدّتها مجموعة ناس الغيوان،
و لهمام حسام وهي ملحمة زجلية فريدة للمرحوم العربي باطما. كما أصدر عبد العزيز
الطاهري، عضو فرقة جيل جيلالة ديوانه آه..ياوين ، و الشاذلي عضو لمشاهب ديوانه حبّ
الرمّان. كما صدرت :عشرات المجاميع الزجلية، من مدن مغربية عديدة، بعضها مرفق بقرص مضغوط نهاد بنعكَيدة، أحمد لمسيّح، عزيز بنسعد ... وقد أنجز د. محمد قاسمي
ببليوغرافيا زجلية، يجدر الاطلاع عليها، و هي على الأنترنت للعموم متاحة. أمّا في
ما يتعلّق
بالأطروحات الجامعية، فقد صدرت الأبحاث التالية الشعر الملحون في مدينة آسفي لمنير البصكري، وغناء العيطة : الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية في المغرب
لحسن نجمي، والأحاجي المغربية : مجالاتها وبنياتها ومقارناتها لأحمد زيادي، وشعرالملحون
الظاهرة ودلالاتها لعبد الصمد بلكبير
وأغتنم الفرصة للإشارة إلى أنّ الصديق
الباحث ميمون راكَب قد ناقش أطروحته عن الهوية السوسيوثقافية بشرق المغرب من خلال
القصيدة البدوية، وقد تمت التوصية بطبعها، فهنيئاً لصديقنا، و هنيئاً لنا جميعاً
بهذا المنجز الأكاديمي. وفي مجال التوثيق، صدر مكنز التراث الشعبي المغربي، وهو
أداة توثيقية لتوصيف مواضيع التراث الشعبي المغربي، عن المركز المغربي للتراث
الشعبي والمخطوطات بالدار البيضاء.
إلاّ أنّ هذه الإصدارات التي أشرت إليها
كلّها لم تنشر على نطاق واسع، وسيظلّ الاطلاع عليها محصوراً في نخبة من المهتمين
قليلة. ومن خدمات الأنترنت وحسناتها الجليلة أن أتاحت المجال للشعراء والزجاين والمهتمين بالآداب والفنون الشعبية، ليؤسسوا مواقع ومدونات ومجموعات على شبكات
التواصل الاجتماعي، يوظفونها بذكاء لنشر إبداعاتهم والتفاعل مع متلقيها، والتعارف
فيما بينهم لتبادل الآراء ومناقشتها . وعلى سبيل المثال لا الحصر، أذكر من مجموعات
الفايس بوك أنسام الزجل وزجل و المدمنون ..الشعر الشعبي والملحون، ونادي الزجل،
التي يعدّ شاعرنا أحمد اليعقوبي من أعضائها النشطين. ومتتبّع محتويات هذه
المجموعات يلاحظ تنامياً مطّرداً في نشر الإبداعات الجديدة، والنصوص الشعرية
التراثية، وبعض المتابعات النقدية والرؤيات الفنية المرتبطة بالكتابة الزجلية.
وهكذا أصبح ميسّراً لمتصفّح الأنترنت أن يتابع مستجدّات ما يهواه نصّاً وصورة
وصوتاً. وصار من اللاّزم على الباحث في أمور الزجل ٱلاّ يغفل المتن المنشور على
الشبكة، حتّى لا يبتعد عن المقتضيات العلمية، إذ المستقبل مستقبل رقميّات
في هذا السياق، أصدر الشاعر أحمد اليعقوبي
ديوانه الثاني رياح النور، على نفقته الخاصة، عن مطبعة الجسور بوجدة، في حلّة
بهية. فقد صمّم غلافه الفنان القدير محمد سعود، الذي ظهرت لوحاته على أغلفة عدّة
إبداعات مغربية وعربية. ولا بأس من ذكر الإبداعات المحلية التي حملت أغلفتها
لوحاته وهي رواية مرايا لمصطفى شعبان ، وديوانا أوراق مصلوب اشتهى العشق للحسن
رزوقي، و جروح السنين لعبد الله لحسايني، والمجموعة القصصية الشيخ قارون لأحمد
بلكَاسم. وقد ضمّن فنّاننا غلاف الديوان الذي نحتفي به لوحةً يؤوّلها المتلقّي حسب
ذائقته، وأرى عليها شخصياً صفّاً مزركشاً متموّجاً من راقصات ذوات ملامح أقرب إلى
الزنوجة، بعضهنّ متّشحات بالأبيض، قد يكنّ بصدد أداء رقص طقوسيّ أشبه برقصات
كَناوة، ومن هنا الإحالة على وظيفة الرقص العلاجية والتطهيريّة، ومن هنا أيضاً
علاقة اللوحة بمحتويات رياح النّور
وقد بذل شاعرنا جهداً محموداً في إخراج
ديوانه إخراجاً جيّداً و متقدّماً من حيث تنظيم نصوصه إملاءً وضبطاً . إلاّ أنّه
أغفل تذييل النصوص بتواريخ كتابتها؛ و غير خاف ما لتاريخ كتابة النص من قدرة على
إضاءته، ومساعدة المتلقي والدارس والمقارن على تتبّع إبداعية النصوص وتطورها
وديوان رياح النور عمل إبداعيّ ممتع، مزج
فيه صاحبه التجربة الغيوانية وشعر المشيخة المغنّى والفلكلور المحليّ المتمثل في
أغاني الصفّ، منفتحاً، نسبيّاً، على طرائق الكتابة الزجلية الحديثة
وذات الشاعر، من خلال نصوص الديوان، ذات
متوتّرة، تتفجّر طاقتها الإبداعيّة من أجل الانعتاق من لرياح ناشدة الخلاص الذي
يشكلّه النور
يا نْوار النُّجوم نوّرتوا لرحاب ¤ في رحاب
جْناني نشفى م عذابي
ص 23
روحي راه فنات ف زناقي و دراب
ص 25
حوّم الحرّي و نفض نْكابي
ص 26
تطلع لمحنّة تبرا لي لجروح ¤ مْساس
المنكَوشة لرياحي راحة
ص 18
و تلك مقتطفات للتمثيل لا الحصر
ومعجم النور في الديوان وافر، أكتفي بإشارة
على ذلك دالّة. فقد وظّف شاعرنا كلمة نوران قائلاً
يا حباب الغيوان شدّوا الميزان
غيوانكم آ لكَران يطلع نوران
ص 9
كما وظّفتها مجموعة ناس الغيوان في نصّ
السمطة
و السجّانة حلّوا يا وين بيبان لسجان ¤ و
السجّانة شعلوا قنديل و يبان النوران
كلام الغيوان ص 110
ووردت أيضاً في ملحمة لهمام حسام للمرحوم
العربي باطما
كذا سادسة بليلتو نوران ¤ بنور شأني ولا
كمرجانة
ج 1 ص 114
والنوران لغةً مثنى نور، وهما نور الدنيا و
نور الآخرة، أو نور كتاب الله ونور سنّة رسوله عليه الصلاة والسلام
ونظام الدلالة في رياح النور خاضع لثنائية
النور والظلام، وهي ثنائية وثيقة الصلة بالوجود الإنسانيّ، وموغلة في القدم
ومستمرّة، صورها متعدّدة متناسخة وخصبة : خير وشر، حرية وعبودية، سلم وحرب، إيمان
وكفر، عدل وظلم، علم وجهل، كرم وبخل، شجاعة وجبن، وفاء وغدر
ومرجعية هذه الثنائية في الإسلام ساطعة : سورة
النور الآيتان الخامسة والثلاثون و الأربعون
فالمخاطَب في أساليب النداء التي يزخر بها متن
الديوان مخاطبان، مخاطَب النور : حباب الغيوان، ناسي لملاح، مجمع الصواب، عشاق النور،
لحباب، حباب الكَصبة، رفاق العشرة، الأم، الشمعة . ومخاطَب الظلام : حنش الليل، سارق
لفراح، قوم الهدرة، أهل الطغيان، سيّاس الجور، فجّار، عديم الظلّ، عبّاد الذلّ، قوم
الفيش، بناين ما كانش، ولاد الندبة، الضبابة
ومعجم الوحيش الموظّف في الديوان صفّان، صفّ
النور : طير العزّ، طير الحبّ، الطير الحرّي، بشّار الخير، لحمام، الباز، الضرغام،
النحلة . وصفّ الظلام : لغراب، الذياب، الضبع، حنش الليل، الحية، لبويا، بوطشل، موكة،
الفار، الطوبة، قراقر، رتايل، مجدامة الحيطان، الخفاش، العكَرب، كَناين العيش
ومعجم النبات أيضاً مصنّف كذلك، ففي صفّ النور
: الزيتون، اللّتشين، اللّوز، لمزاح، بنعمان، الصفصاف، النخلة، الكَرّيش، نوّار الدفلى
. وفي صفّ الظلام : السدرة، كحّيلة، الخروب يموت، زبّوج
والشاعر بطريقة تعبيره ميّال إلى التشبّث بتقاليد
القصيدة الزجلية : معماراً وإيقاعاً. فهو يفتتح نصه أطياف النور ص 29
يا ربّي مولاي يا ميسّر لعلوم ¤ يسّر هاذ الكَول
وارفع م لمقام
ويختتمه قائلاً
أحمد اليعقوبي يختم ذا المنظوم ¤ وما كاين ما
خير مْ حمد الله ختام
كما يفتتح نص زهرة لوعار ص 53
نبدا باسم الله نظمي يا حضرة ¤ و الصلاه و السلام
عليه طه بولنوار
ربّي سخّر لي ذو بياتي بالراء ¤ عزّ طياري طار
يخبرني ما صار
و يختتمها بقوله
و يزّاكم هزا يا اللّي ف الورا ¤ أحمد طيره ف
سماه..علاه ما فيه غبار
مع رياح الكَصبة بانت لَهْ مارة ¤ و بِحمدِ الله
يختم ذو لشعار
فالشاعر في هذين المثالين محافظ على المنوال
التقليدي، مثل الشيوخ الذين يتشبثون بصنعة الأسلاف، متضرّعين إلى الذات الإلهية لتسهيل
مهمتهم الشعرية العويصة، حتّى لا يخيّبوا انتظارات جمهورهم المستمع ذي الثقافة الشفويّة
كما يستعين الشاعر في نصوص عدّة بالتطريزات التنغيمية
التي يبرز تأثيرها الإيقاعي أثناء إنشاد النص. كتكرار ألفاظ النداء، و تلك الدالّة
على التنبيه أو التوجع : واه، ياه، هاو، ها ... فقد ورد حرف النداء يا في نص المنكَوشة،
المكوّن من ستة وعشرين بيتاً، إحدى وعشرين مرّة . وذلك من المؤشرات إلى أنّ شاعرنا
يولي اهتماماً بالغاً إعداد النصوص للإلقاء . وما ذلك بعيب، وإنّما هو ذوق واختيار،
والأذواق مستساغة
حكى أحد أدباء مصر قال : أذكر أنّني كنت في سياحة
نيلية مع شاعر النيل حافظ إبراهيم، وسمع ملاّحاً يغنّي
والفرش حيران بهم ¤ باللّيل ما ناموا
فارتجّ رجّة عنيفة من : الفرش حيران بهم، ورأى
من فوره أنّ هذا المعنى البديع ينبغي أن ينظم في شعر العرب، فنظم بيته المأثور
حار الفراش بنا ممّا نكابده ¤ و ضاق صدر اللّيالي
عن تشكّينا
1
وقد سمع صديقنا، وصديق مدينتنا، الشاعر الطيب
هلّو رائعة شاعرنا أحمد اليعقوبي
يا المنكَوشة يا الزين الجرّاح ¤ قسْتِ كَلبي
طار من سرّك يصدح
... ... ...
دغدغ و نابي ينسلّوا لرياح ¤ نكَر القلّوز لمحبّة تلقح
فأوحى إليه ما سمع و قرأ بنصّ فصيح رائع، منه
قوله
أيّتها المنقوشة
ما لجمالك جرّاح؟
أطربت القلب المجنون بلا ولهٍ
و فمي من سرّك، يا شرقية، صدّاح
ص19
وهذا يذكّرنا بحكاية الشعراء مع
اللّي مدكَوكَة سبع دكَات ¤ دكَات ما سال منها
دم
حطّوها كَالوا ماتت ¤ هزّوها كَالت نْعم
اسمع الشكوى من الناي الحزين
قصّة الفرقة يحكيها الأنين
قطّعوا القصباء فالتاع القصب
و استحالت للورى بوق العتب
ليت صدري يتشظّى بالفراق
كي أبثّ الكون سرّ الاشتياق
وهذا الشاعر مصطفى بن إبراهيم، من القرن 19م،
يُرجعنا إلى عالم الأرض و الأحاسيس
يا ولفي أنا اللّي سهرت الليالي
... ... ...
يا ولفي تنقار و الكَصب اللّي تخالي
وهذا جبران خليل جبران يعود بنا إلى عالم المثال
والرومانسية، في مطوّلته المواكب، حيث تتردّد كلمة الناي خمساً وثلاثين مرّة
اعطني الناي و غنّ ¤ فالغنا سرّ الوجود
وهذا الشاعر عبد القادر الخالدي يُرجعنا إلى
ملذّات الأرض
إذا بدات الكَصبة تنم و انت تكبّ
صاحبك ما يعبى يغيب كاللّي جذب
وهكذا الشعر تعبير عن تأرجح الإنسان بين المدنّس
والمقدّس
و ديوان رياح النور، فضلاً عن قيمته الإبداعية
والجمالية، يعدّ متناً لسانيّاً يفيد دارسي علوم اللهجات، لما فيه من معجم عتيق مهمل،
أكسبته بلاغة شاعرنا نضارة و جمالاً
فهنيئاً لك يا شاعري الغالي بهذا المنجز الإبداعي
الرائع، و هنيئاً لنا جميعاً
مستعيراً كلام شاعر أختم قائلاً
يا رافعاً في القوافي راية الزجل
إذا اختشبت من الأزجال قافية ¤ تركت منها ذوي التنقيح في خجل
2
و السلام على جمع الكريمات و الكرام
بركان : 05 أبريل 2012
جمال الخلاّدي
هوامش
1 _
العامية و الفصحى . محمد بهجة الأثري
ديوان الكرخي . الجزء الأول . المقدمة ص: ل
دون تاريخ و لا ذكر لاسم المطبعة
2 _
من قصيدة لمعروف الرصافي إلى عبود الكرخي
ديوان الكرخي . الجزء الأول .
دون تاريخ و لا ذكر لاسم المطبعة