نصّ مداخلة مقدّمة في حفل توقيع ديوان الزمان المكَلوب للحسن درويش
الذي نظّمته المنظّمة المغربيّة للكشافة والمرشدات ـ فرع بركان
بالمركز الاجتماعي للقرب، بمدينة بركان
يوم السبت 23 فبراير 2013
الزمان المكَلوب ديوان زجل الحسن درويش مطبعة الجسور ¤ وجدة الطبعة 1 ـ 2012 |
بدءً، شكراً للمنظّمة
المغربيّة للكشافة والمرشدات ـ فرع بركان، منظمة هذا الحفل الإبداعي الذي يصبّ في مجرى
الأنشطة الثقافية في مدينتنا، كقطرات الأمطار المضافة إلى مجاري الأنهار. وشكراً للذين
يدعّمون حراكنا الثقافي، بطريقة أو بأخرى، بقدر قلّ أو كثر، ومنهم، بالطبع، الفضليات
والأفاضل حضور هذا الحفل البهيج . وبعد :
فيسعدني أن أسهم،
رفقة صديقيّ ميمون راكَب وعبد الحميد بن عبد الله ومجموعة العشران والفنّان سفيان نوري،
في الاحتفاء بثامن مجموعة زجليّة بركانيّة، لصاحبها الصديق الحسن درويش، الذي اهتمّ
بالكتابة الزجليّة، منذ ثمانينيّات القرن الماضي، ضمن هواياته المسرحيّة والغنائية.
وجهوده في تأسيس جمعيتي <<الأنوار>> و<<العشران>> لا ينكرها
أحد من المنشغلين بالتأريخ الثقافي المحليّ.
وإن تأخّر في إصدار
نصوصه الزجليّة، شأنه في ذلك شأن مبدعي مدينتنا جلّهم، فوصوله متأخّراً راوياً عن حال
الزمان خير من عدم وصوله. وقد يجد القارئ في عنوان الديوان، مدار احتفالنا، تعليلاً
لذلك التأخّر. إنّه <<الزمان المكَلوب>> الرامز إلى التوتّرات الاجتماعيّة
ـ السياسيّة، في السياق المنعوت بسنوات الرصاص. وأوّلُ ما يواجه متلقيَ الديوان لوحة
الغلاف لصاحبها الفنّان عبد الحفيظ مديوني، الذي لم يبخل على مبدعينا بلوحاته، ومتأمّل لوحة الديوان المحتفى به، لن يتركه التحسر على مصير ذلك الإنسان الظاهر
عليها، والذي هو في صيرورة تجوّف، صيرورةٍ تذكّرنا بالتجربتين السيزيفيّة، والدونكيشوطيّة،
وبشخوص جياكوميتي في منحوتاته الشهيرة، كما تذكّرنا باللّمحة المعرية البليغة <<تعبٌ كلّها الحياة>>.
فاختيار هذه اللوحة غلافاً للديوان اختيار موفّق. وتعاون أدبائنا مع تشكيليّينا تعاونٌ
محمودٌ ومقدّر، وإسهاهمم بذلك في التنمية الجمالية لا يجحد.
والزمان الموصوف
في عنوان شاعرنا بالمكَلوب، قد شغل البشرية منذ وعيها المبكّر. وقد بثّ الإنسان تصوّراته
حول الزمان، في أساطيره، ومعتقداته، وفلسفاته، وجمالياته. وشكوى الزمان وذمُّه، في
أشعارنا الفصحى والعاميّة، موضوع شائعٌ عريض. من فصحاها أكتفي بقول المتنبّي :
أفاضل الناس أغراضٌ
لذا الزمن ¤ يخلو من الهمّ أخلاهم من الفطن
وقول أبي نواس :
قلْ للذي بصروف الدهر
عيّرنا ¤ هل عاند الدهرُ إلاّ من له خطر
أمّا <<نعيب
زماننا والعيب فينا>> فعبارة شعريّة قد صارت على الألسنة حكمة جارية.
ومن شعراء العاميّة
الذين شغلهم الزمان المتقلّب والغالب الشيخ عبد الرحمن المجذوب، الذي يعدّ منجَزه الإبداعيّ
منهلاً لزجّالينا جلّهم، ومنهم شاعرنا الحسن درويش، الذي يشير إلى ذلك إذ يقول:
المجدوب من بحرُه
رْواني
واللّغز ترسّخ ف
عْماق غْصاني
يا عشّاق المعنى
ذوقوا ما جاني
إلهام صوفي ماشي
شيطاني
ص: 46 ـ يا معذّبين صبري
وقد تضمّن
<<القول المأثور من كلام سيدي عبد الرحمن المجذوب>> أربع رباعيّات ورد
فيها الزمان لفظاً صريحاً، أكتفي بذكر واحدة منها:
يا ذا الزمان يا
الغدّار ¤ يا كاسرني من ذراعي
طيّحت من كان سلطان
¤ وركّبت من كان راعي
وقد أدرج محقّق ديوان
<<الكلام المكمول>> لسيدي امحمّد البهلول تسع عشرة صفحة ضمن موضوع: غدر
الدنيا وتقلّب أحوال أهلها وشكوى الزمان، وأشعار امحمّد البهلول ذات نفحة مجذوبيّة
ضائعة، والرباعيّة التالية على ذلك دالّة:
الدنيا لدّات ومقادر
وقضا ¤ وتكوّر بعض اسوايع بقضاها
صفّي ذهنك من سوس
الخوضة ¤ وتسنّى السوايع برجاها
ص: 125 ـ ديوان الكلام المكمول
ولعلّ أكثر قصائد
الملحون تمثيلاً لموضوعة <<ذمّ الزمان>> قصيدة <<لطف الله الخافي>> لأحمد لغرابلي،
والتي منها:
لولا ضعف الايمان
¤ ما يضعاف ازمان
ويولّوا الطغيان
¤ بالقهر جايرين
ص: 354 ـ القصيدة ـ عبّاس الجراري
وعن <<آخر
الزمان>> (أو تاخير الزمان بتعبيرنا المحلّي)، والذي يذكّرنا بقول الاخضر بن
خلوف
<<آخر الزمان ينعكس وتنقلب ليّام>>
(ص: 355 ـ
القصيدة ـ عبّاس الجراري)
؛ لنتأمّل قول الشيخ عبد القادر المازوني، راثياً
مدينة الجزائر التي احتلّها المستعمر الفرنسيّ:
توبوا استغفروا للمولا
¤ هذا اخر الزمان ادركنا
فيه لمحاين وكلّ
بلا ¤ منّا الفوق ما كان هنا
التعب لطم كلّ قبيلا
¤ ما جا الاّ زمان الفتنا
من عاش حالتُه لا
حالا ¤ واللّي مات ذاك تهنّا
ص: 109 ـ البسكري
كما لم تخلُ أزجالنا
المعاصرة ممّا له ارتباط بالزمان وتقلّباته، ومنها بعض النصوص التي أدّتها المجموعات
الغنائيّة : ناس الغيوان، وجيل جيلالة، ولمشاهب. وتمثيلاً لذلك من أغنية <<غادي
ف حالي>> الغيوانيّة البيتان التاليان :
ف هاد الزمان ¤ كلشي
غضبان
المرض ولحزون ¤ وانا
مخزون
ص: 125 ـ كلام الغيوان
كما يدلّ على ذلك
قولهم
مال زماننا عواج
¤ وتدلاّت إيّامُه؟
ص : 131 ـ تعالى ـ كلام الغيوان
وشاعرنا الحسن درويش
لا يخفي إعجابه بالمجموعات الغنائية المذكورة، كما لا يخفى تأثّره بإبداعاتها: محتوىً
وإيقاعاً. وهو يقرّ بذلك في نصّه <<الكلام الصافي>>
إذ يقول :
وهذا حالي جيلالي
ص : 72 ـ الكلام الصافي
والزمان ومعجمه في ديوانه جليّ ناصع. فعنوانه
العام هو <<الزمان المكَلوب>>، وثلاثة نصوص، من نصوصه الاثنتين والثلاثين
عناوينها مرتبطة بالزمان : <<عذاب اليوم>> و<<الدنيا العوجة>>
و<<معجزة الزمان<<
كما ورد معجم الزمان
في ثنايا جلّ نصوص
الديوان. فقد وظّف الشاعر كلمة <<الزمان>> صريحة كما يلي :
دار الزمان وسرّ
القلب تكشف لّعيان.
ص:11 ـ سرّ القلب
المفهوم باين عبّروا
عليه ناس زمان
ص : 12 ـ المضرب
الظرف عواج على زمانك.
ص:22 ـ الظالم والمظلوم
والزمان المكَلوب
عليك وغادي يدور
ص:44 ـ المنغاز
ذوق من لحدج اللّي
ف ذاك الزمان بكّاني
ص:46 ـ يا معذّبين صبري
وتنشرت(قصة) وعجزت
فيها علماء الزمان
ص:51 ـ معجزة الزمان
الوقت والزمان على
الباب وقفوا
وبنادم تايه غامض
في لهفة
ص:65 ـ التايه في لهفة
زادت القهرة مع الزمان
يحاربو فينا
ص:76 ـ الكَرنة
أنا راوي على الزمان
المكَلوب كيف بقى
ص:81 ـ لحيوط الراشية
فالزمان، من خلال
هذه الاقتباسات دائرٌ وأعوجُ، ومقلوبٌ، ومُبَكٍّ متكالب مع القهر ضدّاً على الفرد،
والشاعر على ذلك شاهدٌ وعنه راوٍ.
كما وظّف الشاعر
كلمة <<الوقت>> كما يلي :
هاذي دنيا والوقت
قصير فيها
ص: 17 ـ جمجمة
والموت زايرة وقت من
لوقات
ص : 27 ـ الذات الراشية
وأنت تايه فيها
(الأرض) ووقتك معبور
ص: 44 ـ المنغاز
الوقت كمل وجا الخوف
واللّومة
ص: 53 ـ دار الظلمة
الوقت والزمان على
الباب وقفوا
ص: 65 ـ التايه في لهفة
حضي وقتك لا يفوتك
ص: 74 ـ النفس الممدودة
ومن هذه المقتطفات
تشير لفظة <<الوقت>> إلى كون
الفرد في الدنيا مجرّد عابر، والموت في انتظاره. فشاعرنا مشغول بسؤال الموت المؤرّق
انشغالاً كبيراً .
واستعمل الشاعر كلمة
<<الظرف>> مرّة وحيدة:
الظرف عواج
ص: 22 ـ الظالم والمظلوم
أمّا كلمة
<<الدنيا>> فقد وردت في أماكن
من الديوان عدّة :
الدنيا ما لها هكذا
ولاّت
ص: 9 ـ صياح الحيتان
هادي دنيا متهومة
بلغدر
هادي دنيا والوقت
قصير فيها
ص:17 ـ جمجمة
حياته (بنادم) عوجة
والدنيا ماشيَ عرجة
ص: 49 ـ الدنيا العوجة
تّجلينا ف دنيا
ومّاليها عواجوا علينا
ص :50 ـ الدنيا العوجة
من دار الدنيا رحّالة
لدار الظلمة رحّالة
ص: 54 ـ دار الظلمة
واش همّ الدنيا تكوّر
وتلاح علينا
ص: 76 ـ الكَرنة
فشاعرنا، متشائماً،
يحكي عن دنيا بالغدر والهموم زاخرة، والأفراد فيها رحّالة إلى مصيرهم المحتوم
ومن الألفاظ التي
وظّفها شاعرنا، للتعبير عن رؤيته الزمنية ذات النزعة الوعظيّة والتشاؤميّة، كلمة
<<اليوم>> التي كرّرها خمس
مرّات في نص <<عذاب اليوم>>. كما وردت في نصوص أخرى كالتالي:
اليوم القلوب ما
صافية
ص: 49 ـ الدنيا العوجة
يا طايع النفس ولهوى
كي دّير اليومَ؟
ص: 53 ـ دار الظلمة
يوم لزدحام ما تعارفنا
عند المولى تحاسبنا
ص: 59 ـ الرحمة
ليام غادية وتذوب
ص: 60 ـ الشان المدفون
راه يومك مات والذنوب
والشر عصات
ص: 76 ـ الكَرنة
يوم ملقاه (الصاحب)
يفرس ب شفاه
ص: 84 ـ لعيوب
ثبّت صبرك ويجي يومك
وتنجى
ص: 85 ـ دبّر وصبر
هذا يوم وذاك يوم
والغالب ولّى مشؤوم
هذا يوم وذاك يوم
والمطلوب ولّى مفهوم
هذا يوم وذاك يوم
والتهديد ولّى معلوم
هذا يوم وذاك يوم
وبنادم في حرّية لهموم
ص: 86 ـ دبّر وصبر
ولذمّ الزمان وشكواه،
وظّف الشاعر إلى ماسبق، الساعة والشهر والسنين
والقرون:
لو كان الساعة تجاوبني
نخلّي عدويا يعاني
ص: 46 ـ يا معذّبين صبري
هادي سنين والروضة
فيها نيران
ص: 51 ـ معجزة الزمان
سارت قرون وعدادها
سنين وشهر ويوم
ص: 31 ـ عذاب اليوم
ذلكم بعضٌ من تجلّيات
معجم الزمن في ديوان <<الزمان المكَلوب>>، ومَنْ يتأمّله في سياقه النصّي،
يدركِ المنزع الزهديّ، في أزجال شاعرنا الحسن درويش، هذا المنزع الذي يذكّرنا بزهديات
أبي العتاهية وابن الفارض، وغيرهما من الزهّاد الكثر، في تاريخ الإبداع الإسلامي ذي
الروافد المتعدّدة. فمرارة الواقع تجعل الشاعر متضرّعاً إلى الذات الإلهيّة :
رجانا فيك يا مولانا
رجانا فيك
ص: 8 ـ صياح الحيتان
يا رحمان الطف بنا
ص: 11 ـ سرّ القلب
يا العالي شوف ف
لعباد
ص: 23 ـ الظالم والمظلوم
يا خالق هاذ لعباد
حنّ واشفق بالهدوء
والهنا
ص: 41 ـ عباد الخالق
كما لا يملك الشاعر،
أمام مأساوية المعيش، إلاّ أن يمحض أخاه الإنسان النصيحة :
يا الغافل فين تايه
ما بقات تيقة واللّي فينا راه علينا
ص: 50 ـ الدنيا العوجة
يا العاقل لا تخاطر
القلب الصافي عندُه قيمتُه
ص: 82 ـ لعيوب
يا الراغب ف الزاد
بعّد بلاك لمسلّط بهواك
ص: 86 ـ دبّر وصبر
وأمام الفناء، لا
يسعف الشاعرَ إلاّ مناداة النفس متوجّعاً توجّع العاجز الضعيف ، الذي لا يردّ أذىً
ولا يدفع مكروهاً :
يا حرّي ويا حرّ
الموت
كي ندير نولّي ونعود
وانا كَدّام غسّالي
ممدود
رحّالة رحّالة وا
خيّي رحّالة
ص: 55 ـ دار الظلمة
وختاماً، فأجواء
أزجال الصديق الشاعر الحسن درويش، بمضامينها وإيقاعاتها، تذكّر قارئها بالأجواء الغيوانيّة،
وللراغب في الدراسة المقارنة أن يطّلع على ديوان <<كلام الغيوان>> الذي
يضمّ النصوص التي أدّتها مجموعة ناس الغيوان، و<<ملحمة لهمام حسام>> للمرحوم
العربي باطما، و<<آه يا وين>> لعبد العزيز الطاهري، و<<حبّ الرمّان>>
للشاذلي، و<<نقيق الضفادع>> لشهرمان. غير أنّ انتماء ديوان <<الزمان
المكَلوب>> إلى المنزع الغيوانيّ، لا يعني سقوطه في التقليد الباهت والبليد،
فشاعرنا ذو أصالةٍ، وبُعد جمله الزجلية عن التكلّف والتقعّر والتشظّي، يمنح تعابيره
سلاسة جذّابة، وإن يُقَيّضْ لنصوصه الملحّن والمؤدّي تستسغْها أسماع الشريحة الذوّاقة.
ويبدو أنّ زماننا
سيظلّ، إلى أجل غير مسمّى، مقلوباً، إذ <<لا يوجد شيء اليوم يخلو من التشويش
والاِرتباك، كما لا يوجد شيء بعيد عن التجهيل والالتباس>>
(أمبيرتو
إيكو ـ المنتدى الثقافي ـ ص: 12ـ الشرق الأوسط : 08 غشت 2007)
أخي الحسن، المبدع
الغالي، أشكرك على دعوتك إيّاي لإنجاز هذه الكلمة عن ديوانك الجميل، كما أشكرك على
تعزيزك كوكبتنا الزجليّة البركانيّة، وأنت العاكف على تجربتك الإبداعيّة مدّة غير يسيرة،
تصونها، وتنمّيها، غير عابئ بالزمن وتصاريفه. وما يدرك عصيان الشعر، وصعوبة مناله،
إلاّ من أبدعه بصدق وتلقائيّة. و الشعر، كما تمثّله أحد النقّاد <<عصفورٌ وديعٌ،
إن شددتَ عليه قبضتك الدراسيّة أزهقتَ روحه، وحوّلته إلى جثّة لا يغنيك تشريحها في
معرفة سرّ رشاقتها وهي ترفّ من حولك>> (ص : 9 ـ أساليب الشعريّة المعاصرة ـ صلاح
فضل). وإلى أن تتحفنا بديوان ثانٍ به شيءٌ
من جمال الحياة ومباهجها، لتعشْ لذويك وللابداع، ولتدمِ الصحة والمسرّات لك.
وأختم بقول ابن زيدون
:
لَعمركمُ إنّ الزمان
الذي قضى ¤ بشتّ جمع الشمل لَمُشتطُّ
ص: 162 ـ ديوان ابن زيدون ـ المكتبة العصرية ـ بيروت ـ ط 1 ـ
2009
وشكراً، أيّها الكرام
وأيتها الكريمات، على صبركم وأريحيتكم، راجياً لكم قضاء لحظات ممتعة، رفقة أزجال شاعرنا
الحسن درويش المتّشحة بالبلاغة العاميّة الساحرة، والسلام.
جمال الخلاّدي
من اليمين :ج.الخلاّدي، ح. درويش،ع.ح. بن عبد اللّه، م. راكَب |