قراءة في ديوان خيط من شتاء لميمون الغازي
نصّ المداخلة المقدمّة في حفل توقيع ديوان خيط من شتاء لميمون الغازي، يوم 28 دجنبر 2012
|
خيط من شتاء ديوان زجل ميمون الغازي مطبعة رابا نيت ¤ الرباط الطبعة الأولى 2012 |
بداية أشكر جمعيّة التنمية للطفولة والشباب، على دعوتها الكريمة، وعلى تنظيمها هذه الأيام الثقافية التي تغني المنجز الثقافي في مدينة بركان. كما أشكر جمعيّة المغاربة بفرنسا المتعاونة معها على ذلك. والشكر موصول أيضاً لمدعّمي الثقافة في مدينتنا، وللحاضرين كلّهم. وأغتنم الفرصة للترحّم على روح الفنّان الزجّال القدير أحمد الطيب العلج، الذي فارقنا بداية هذا الشهر : دجنبر 2012، بعد أن أمتعنا بنصوص زجليّة، أطربتنا بكثير منها أغنيتنا المعاصرة. تغمّده الله بواسع رحمته، متمنّين أن توثّق إبداعاته الشعريّة، في ديوان، حتّى تُتاح للقارئ المتذوّق، وللدارس المدقّق. وأرحّب بدوري بضيوف مدينتنا، المبدعين الأفاضل : إدريس مسناوي، وأحمد لمسيّح، وخالد مساوي، ودليلة فخري، وحميد عسيلة، وصلاح الطويل، والجميع دون استثناء. وهنيئاً لهواة الزجل بأطروحة الدكتوراة، التي أنجزها الباحث والزجّال مراد القادري، حول أزجال صديقنا المبدع أحمد لمسيّح.
والزجل، أعزّكم الله، شعرٌ، وهذا أمر لا يتناطح حوله عنزان؛ فالشعر شعر أُنجز بهذا اللسان أو ذاك، وألسنة البشر لغات، والمنجز الشعريّ أشكال مختلفات : معنى ومبنى. والموروث الشعري العاميّ، في الأندلس والمغرب، يضمّ من روائع القصائد ما يضاهي ما أنجز بالفصحى، رغماً من أنّ النخبة العالمة، عموماً، قد وقفت من المنجز الشعري العامي موقف احتقار، فغيّبته من مصنّفاتها المتعلّقة بالأشعار، حفاظاً على ما لها، في عالم المجتمع والسياسة، من امتيازات. ومن مازال اليوم منها، أي من النخبة العالمة، على موقف الازدراء ذاك، لا يعرب إلاّ عن قصر نظر وضحالة ثقافة. فتحيّة لمبدعينا الذين يصرّون على الإبداع، بهذه اللغة أو تلك، في هذا الجنس الإبداعي أو ذاك، معتمدين إلى إمكاناتهم الماديّة، مهما ضمرت. ومنهم شاعرنا ميمون الغازي، الذي نحتفي الأمسية، بباكورته الزجلية : خيط من شتاء، التي صدرت أواسط سنتنا التي نعيش أيّامها الأخيرة :2012م، مثريةً المتن الزجلي المحلّي والوطنيّ. ولا بأس من التذكير بما صدر من مجموعات زجليّة لمبدعين منتمين إلى مدينة بركان، مرتّبة حسب زمن صدورها : أوّلاً: همّ الدنيا، لأحمد عزيزي. ثانياً: الكَصبة والطير، لأحمد اليعقوبي. ثالثاً: يا مّا غدّا العيد، ليوسف الطاهري. رابعاً: ريحة لبلاد خضرا، لعبد المالك المومني. خامساً: رياح النور، لأحمد اليعقوبي. سادساً: الحاسي، لجمال الخلاّدي. سابعاً: خيط من شتاء، لميمون الغازي. ثامناً: الزمان المكَلوب، للحسن درويش؛ مجموعات أسهمت في إغناء التجربة الإبداعية في مدينتنا، برؤياتها وطرائق تعبيرها المتباينة
ومن الملاحظ أنّ مبدعينا الكرام، الذين اعتمدوا إلى إمكاناتهم البسيطة لنشر هذه المجموعات، قد حرصوا على إخراجها إخراجاً جميلاً جذّاباً، وقد أسهم فنّانونا التشكيليّون في ذلك الإخراج إسهاماً مقدّراً ومشكوراً. وهم: زكية مركَوم، وعبد الحفيظ مديوني، ومحمد سعود، وحسن بركاني، ومصطفى أجماع. فبعد أن ظهر ديوان الكَصبة والطير، وعلى غلافه لوحة للفنّان عبد الحفيظ مديوني، ها هو غلاف الديوان الذي نحتفي به، اليوم: خيط من شتاء، مزيّن بلوحة أخرى لفنّاننا نفسه، لوحة ذات منزع تجريديّ، دكنة ألوانها وتدرّجاتها تثير في مشاهدها إحساساً بالكآبة حادّاً، وتلكمُ النافذة المغلقة، على اللوحة، قد تدلّ على تقوقع الذات الهاربة من مأساوية الوجود، هذا الوجود الذي فيه <<أقلّ حدث يجري مثل مصير، والمصير نفسه يتقدّم كنسيج فارهٍ وعجيب. كلّ خيط فيه تمسكه يد متناهية العذوبة، مأخوذ ومستلم من مائة يد أخرى.>> (ريلكه. رسالة إلى شاعر ناشئ. ترجمة: أحمد المديني. ص: 21) ومن هنا تماسّ لوحة الغلاف ومتن الديوان. فالخيط مدار الحياكة، فهو الواصل والراتق والناظم. وفي الرمزية الإسلامية <<يختزن الخيط طاقة. يعتقد بعض المؤلّفين أنّ لأنوال الحياكة روحاً: إذا ركّبت تحيا، وإن فكّكت تموت>> (معجم الرموز الإسلامية. مالك شبل. ص: 119). والمشابهة بين الشاعر والنسّاج غير خافية على أحد. فكثير من مصطلحات الملحون مقتبس من مهنة الحياكة والنسيج، منها تسميتهم القصيدة بالحلّة، أو المرمّة، والقياس والطرازة، والنساجة، والسدّة، والفراش، والغطا، وغيرها من المصطلحات الملحونيّة.(انظر: شعر الملحون: الظاهرة ودلالاتها. ج 2. عبد الصمد بلكبير. ص: 14). ومن توظيفات الخيط، في موروثنا الشعري العاميّ، قول عبد الرحمن المجذوب :
اللّي علينا حنا درناه ¤ واللّي على الله هو به ادرى
خيط المحبّة فْنيناه ¤ ما خصّتُه غير المدرى
(القول المأثور من كلام الشيخ عبد الرحمن المجذوب. ص: 78)
وما زالت فرق عبيدات الرمى تردّد، في عيطة حوزية، مواجهة التوغل الفرنسي في منطقة خريبكَة سياقُها :
كَالت ليكم كَلنا ليكم ¤ كلّ حاكم وخيط يدّيه
(ملحمة ادّهار أوبرّان. محمد أقضاض ومحمد الولي. ص: 15)
أمّا شاعرنا ميمون الغازي فيضع أمام قارئ ديوانه مجموعة خيوط زجلية متباينة، ولقارئه أن تقوده ذائقته ومهارته ليحيك منها ما يريد
والخيط في عناوين نصوصه مضاف إلى أسماء معرّفة، بعضها مأخوذ من عالم الطبيعة (الشتا، الكَمرة، الشمس، النور، الربيع)، والبعض من عالم الإنسان والوجود، منه الملتصق بالعاطفة وأمورها (الرحم، الغرام، القلب، الكبدة، المرياح)، ومنه ما يحيلنا على تأمّلات الشاعر في الفنّ والكتابة والحياة (الحلمة، الرؤية، الوجود)، ومنه المرتبط بالغربة والحنين إلى الوطن (الموسم)، ومنه المتعلّق بقضايا اجتماعيّة ـ سياسية (الديب، الحاكم). والخيط في الديوان مرتبط بالمطر ارتباطاً وثيقاً، والخصب والخير دلالة المطر الكبرى والصارخة، بخاصة في مجتمع زراعيّ كمجتمعنا، حيث المطر بركة والرحمة من أسمائه الشائعة :
أنا سفينة
بلا مرسى
بلا بحر
أنا خيط من شتا
اخضر
ص: 26
كما يحيل الخيط، في الديوان، على عالم النسيج الإبداعيّ، فالشاعر حائك فرح، وحامل بشرى :
ف جنان الحلمة
... ... ... ...
نغزل/ نعزل
من الحزان الافراح
ونبشّر
ص: 30 ـ 31
وأزجال الشاعر مواويل لقارئه مهداة :
بكلام لعجايز
يكتب موّال
ب الحرف والحرف
ينسج كلام
موزون ف لسانه
هذا خيط من يد فنان
وهذه قصيدة عنوان
ص: 38
وفي مكان من الديوان آخر، يرتبط الخيط بالرمز إلى الحرية :
حلفت السحابة
ما ترحل
ما تهجر
غير إلى غزلت لها عروسة الشتاء
منديل اخضر
م خيوط لفجر
ص: 41 ـ 42 خيط الشمس
وفي مقطع آخر يعبّر الشاعر عن توقه إلى التطهّر من عالم الظلام، وإلى الانعتاق منه :
دموعي نزلت شلاّل
غسلت وجهي
صفّت حروفه
من كثرة الجذبة
تشقّ الديجور
بان خيط من النور
جاي لاقيني مبشور
ص : 47 خيط النور
والخيط تارة أخرى مرتبط بالحنين الذي تثيره الإقامة بأرض الغربة. يقول الشاعر مشيراً إلى مسقط رأسه
حبيبتي
فتلت خيط الشوق
ف كبدتي
ص : 58 خيط الكبدة
وأخيراً يرمز الخيط إلى مجهول الوجود، الذي على كلّ منّا أن يواجهه :
جيتك
وخيوط الضباب
تغزل م لفراق منديل
يشالي ل سفينة
عطات
وجهها للريح
وظهرها للموج
ف عزّ اللّيل
ص: 99 خيط الوجود
.. وبما أنّنا بصدد التقديم، أكتفي بإشارات متعلّقة بطرائق الكتابة والتعبير لدى الشاعر الصديق ميمون الغازي. فنصوص ديوانه، من حيث توزيع كلمات الأسطر الشعريّة، ميّالة إلى الاختصار، فجلّها مشكّل من كلمتين أو ثلاث، ما يذكّرنا بنصوص الشاعر أحمد فؤاد نجم.
وإذا كان شاعرنا قد وظّف الأمثال والتعابير الشعبيّة :
خلّي البير وغطاه. ص: 44 ـ تورّيني أنت ف نهارو وخرّوبُه. ص: 44 ـ لو كان البغلة تحمل. ص: 19 ـ الجرح إلى تعفّن الكيّ دواه. ص: 79 ـ الصبر ذهب. ص: 64 ـ طالع ناكل الكرموس/ هابط/ شكون قالها لي. ص: 69
فإنّه لم ينس الاقتباس من الموروث الشعريّ الفصيح ما يعزّز رؤيته التعبيريّة. فقد صدّر نص خيط لغرام ببيت شعريّ لمجنون ليلى. ص: 48. وختم نصّ خيط الكبدة ببيتيين شعريّين لصقر قريش عبد الرحمن الداخل. ص: 63. كما ختم نصّ خيط لمرياح ببيتين من مأثور شعر العرب. ص: 71.
فضلاً عن استفادته من الموروثات الدينيّة، والأسطوريّة، والتاريخيّة : ثمود وعاد، موسى وعصاه، الفينيق، لونجة، الجنيّة ذات الرؤوس السبعة، الغول ... وتوالت الصفات في أساليب الديوان :
ساجي ساخي بحر. ص: 34 ـ حنين، كريم، متين، اسمر. ص: 34 . كما تتابعت الأخبار:
كان نخلة، نحلة، شهدة، وردة، عطر، صحراء، واحة، حبّ تمر. ص: 35
كماّ اطّردت الأحوال أيضاً :
ندخل ليَّ، مهنّي، راتع، شابع، قانع، ما شاري، ما بايع ... ص: 31
ومن مرتكزات شاعرنا الأسلوبيّة التكرار، بخاصّة في النصوص ذات المنزع التقريري المباشر والصارخ. فعلى سبيل المثال <<يا الحاكم>> تكرّرت ثلاثة وعشرين مرّة، في نصّ خيط الحاكم. واسم الإشارة <<هنا>> تكرّر اثنتي عشرة مرّة في نصّ خيط الكبدة. ولا يخفى ما للتكرار، في هذين المثالين، من وظيفة تأكيديّة على الفكرة المراد تبليغها للقارئ.
أمّا من حيث الإيقاع، والايقاع يتحقّق عموماً <<بالإفادة من جرس الألفاظ، وتناغم العبارات، واستعمال الأسجاع، وسواها من الوسائل الموسيقيّة الصائتة>> (المعجم الأدبي ـ جبّور عبد النور ـ ص: 44). فديوان خيط من شتاء يندرج ضمن التجارب الإبداعيّة التي تبحث جاهدة عن وسائل توفّر الانسجام والتلاؤم النصيّين، تُضاف إلى إيقاعات القصيدة التقليديّة الموروثة
. وأذكّر أنّ الدعوة إلى التحرّر من أغلال الأوزان والقوافي دعوة قديمة. وقد كان الشاعر إدريس لمريني إلى ذلك سبّاقاً حين قال :
أنا بديت ننظم والحرف بدا يغور
علاه ما يكون الشعر بلا حرف
غير حسّ وقول الكلمات
ولودن تسمع ما قلتي
... ... ... ...
(القصيدة ـ عبّاس الجراري ـ ص: 585 ـ 586)
ختاماً، صديقي ميمون الغالي، قد قضيت مع نصوصك لحظات تأمّل سعيدة، فهنيئاً لك يا شاعري
يا اللاّبس حالُه
يا الفتّاش ع الخامر ف الخاطر
ص: 30
و هنيئاً لنا بديوانك الذي أودعت فيه بعضاً من تصوّراتك الوجوديّة النابعة من تجربتك الحياتيّة، ومن رحلة بحثك عن الانسجام بين الذات والمجتمع، وذلك في بناء زجليّ تجريبيّ، فيه شيء من اختراق المألوف، فأسهمت بذلك في إغناء متننا الزجليّ ومشهده الراهنيين
وإلى أن تجمعنا أمسية إبداعيّة أخرى، أتمنّى لك موفور الصحة والهناء، ودمت مبدعاً بهيّاً. وشكراً للحضور كلّهم، راجياً لهواة القراءة منهم رحلة ممتعة مع ديوان خيط من شتاء حيث
القصيدة قسمة
القصيدة حكمة
القصيدة نغمة
القصيدة لمّة
ووواش من لمّة!
ص: 31 ـ 32
وأتمنّى أن تتضافر جهودنا جميعاً، حتّى تكون سنة 2013، ثقافيّاً، خصبة، محليّاً ووطنيّاً، كما أتمنّى لكم جميعاً سنة سعيدة. وشكراً على حسن الإصغاء. والسلام
بركان - جمال الخلاّدي