|
ديوان : عبد المالك المومني |
تذكير
الزجل في المعجم العربي هو الصوت.يقال سحاب زجل اذا كان فيه رعد.ويقال لصوت الحديد والجماد زجل.زجل أي طرب(بادغام الراء) وتغنى ،رفع صوته.وزجل الأحجار صوتها.قال الشاعر
مررت على وادي شياب فراعني ¤ به زجل الأحجار تحت المعاول
وفي "تاج العروس" الزجل هو التطريب. والشواهد كثيرة.
سمي هذا الفن زجلا اذن لاقترانه بالغناء والتطريب،ولاستهدافه للفئات العريضة من الناس عامة، وكأني به قد وضع فقط ليسمع لا ليقرأ، ومن ثم فان تمام الانتشاء بروعة النظم وجماله لايتم الا عبر الالقاء المتميز صوتا وتقطيعات وتمثلات..وصار في عصرنا –مع تقدم وسائل النشر- أن يجمع في دواوين ليحفظ ويدرس على الوجه الأكمل
وتسميات الزجل عند مشاهيره من المغاربة كثيرة ومتنوعة أورد الأخ عبد المالك بعضا منها في مقدمة ديوانه وأسوق بعضها على سبيل المثال لا الحصر: "القول"."لكلام"."لوزان"."اللغا"."الانشاد"."لقصيدة"
...
مدخل إلى "ريحة لبلاد"
"ليس بين الحكاية والأنشودة – في نظر الراوي المنشد بون كبير" ص5
في ما قبل الانشاد يرفع عبد المالك عن قارئه مشقة الكشف،فيبوح بسر الانشاد ويقدم للقارئ
مفاتيح الولوج إلى "ريحة لبلاد" - ولمن شاء أيضا –الولوج إلى الجناح الهيمان
"إنها لمحات من رؤى مهومة سنحت للخاطرحكاية مغناةأو أهزوجة محكية.." ص6
إن تقديم هذه المفاتيح المعروضة في هذا المدخل تنير للقارئ طريق التفاعل مع نصوص
المؤلف،وتحرمه في نفس الآن من متعة الكشف الذي لا يمكن اقامة فرضياته إلاّ من خلال النصوص نفسها.ولن ألتمس للكاتب عذراً، ولكني أفترض أنه تعمد ذلك لإحساسه بكون قارئه سيكون في حاجة الى بوصلة صغيرة تحدد له الوجهة وتبدد غيوم الشك حول ارتباط العشيق بمعشوقه،وسأشير لاحقا-عبر أحد النصوص –الى المزيد من الأدلة في هذا الباب
الديوان قصيدة واحدة مجزأة الى عشرة مقاطع لكل منها عنوان،وكل العناوين تنتظم في عقد واحد،منسجم، تتواصل حباته وتتكامل وتتناسل في اتجاه موضوع أساس.ولا أدل على ذلك من امكانية رص العناوين في جملة واحدة من مثل
مرسول خضرا خليل الصغر جا للدار وعلى عتبة الغرفة،كيف مول الحال،تفقد لوساد،وحن للدالية المعرشة،ولسان حالو يقول أوطاني وحدة
تفقد الكاتب القاص المكان في رحلته في الأولى وهو راحل في الزمان، ولم يركب
صهوة المجهول كالرحالة القدامى وانما رحل لأعادة اكتشاف معلوم، مستحضرا مخزون ذاكرته
ومكنونات نفسه،باكيا متحسرا،ذاكرا متبصرا،فأروى شوقه وأشفى غليله،مازجا بين الحقيقة
والخيال،متحكما في خيوط الظهور والاختفاء،غير آبه بشروط الأجناس الأدبية ولا بمقاييس النقد والنقاد،فكتب "الجناح الهيمان.." وهو يعلم حق العلم كل ما تفتضيه الكتابة الروائية ،وعلى رأس القائمة شروط البناء الفني والحبكة الدرامية في العمل القصصي ككل،ولكنه تعمد أن يكتب كما كتب.روى وحكى، وأخمد حرقة العشق ،فأروى وارتوى، واستراح من أرق السؤال
يرحل الزجال الشاعر على جناح الكلمة مرة أخرىمرفرفا بايحاءاتها وايماءاتها في ريحة لبلاد خضرا وكأني به قد عاوده الحنين بعد قرابة عقدين من الزمن ،وهو الذي لم يبرحه والحنين ،فاختار "القول" باللسان العامي الدارج ،وفي لاوعيه آثار معلقات الشعر العربي القديم والنفس الملحمي في الشعر الانساني، فأطلق العنان وأنشد عشرة "مقاطع" أو "فصول" في عقد واحد، ولم يكن يتوقف بينها الا لالتقاط أنفاسه ،او رفقا بسامعه أو قارئه حتى لا يذهل أو يكل، ورغم ذلك فان هذه الفصول "القصائد" قد جاءت مطولة، وقد يكون ذلك هو أدنى ما
أمكن من الاختصار لدى المبدع، آثر الاستجابة لحاجات نفسه،ودفق شعوره وأحاسيسه
لا مناص من العودة الى "الجناح الهيمان.." في سياق الكلام عن "ريحة لبلاد.." لأنهما
عملان متكاملان موضوعا، مختلفان شكلا وأسلوبا،وهما في تقديري المتواضع ينتسبان الى
شكل من الكتابة المتحررة من قيود التصنيف والتجنيس فالرواية الأولى ،استحضرت كل أدوات
الرواية وأغفلت –عن قصد- النسيج الفني والبناء الدرامي في تشابك الشخوص والأحداث داخل
فضاءات الأزمنة والأمكنة ،لأن الكاتب كان مشدودا الى الواقع أكثر من تحليقه في عوالم الخيال
أن" الرواية" لم تكن الا وعاء لاسترجاع الذكريات كما هو الحال في السيرة الذاتية الجزئية.
أما في الزجل فقد حاد المبدع –عن قصد كذلك- عن المألوف لدى الزجالين،في نظمهم لقصائد
مستقلة ذات مضامين مختلفة تجمع في ديوان، ونظم قصيدة واحدة مطولة ،وضع بينها محطات
استراحة ،وهي بالقراءة البصرية مجموعة قصائد ولكن باستكشاف مضمونها قصيدة واحدة.
من حق أي مبدع أن يكتب كما يشاء.. وقد أفرز الأدب الحديث والمعاصر أشكالا من الكتابة
المتمردة على التصنيف والتجنيس الأدبيين ،وترك الباب مشرعا للمتلقي كي يضع مقروءاته
في الخانات التي يرتضيها لها ، وقد يميل المرء الى رصد التيمة المهيمنة في نص ما، لينسب
الى جنسها نصا ما.وفي تقديري المتواضع ،واستئناسا بما ألمحت اليه أرى أن حضور مقومات
أدب الرحلة كانت بارزة في "الجناح الهيمان" ، ويمكن تلمس آثارها في "ريحة لبلاد".لكنها
الرحلة في الزمان والمكان لاعادة اكتشاف المعلوم.
لماذا كل هذا الشوق والحنين؟ لم كل هذا العشق الصوفي لمعشوق لا تثير رؤيته الآن الا
فيضا من مشاعر الأسى والحسرة؟
بلغة الجغرافيا وقاموس الطبيعة،كانت "خضرا" اسما على مسمى،بساتين ومروج خضراء،
طيبة الماء والهواء والانسان.في تلك الأحضان فتح الصبي عينيه،وليس لأحد رضع من ذلك
الزلال،وارتوى بسحر تلك المروج الا أن يهتف ويتعلق ويحن..متكلما أو صامتا. وأهل البلدة
من جيل خمسينيات وستينيات القرن الماضي لا يختلفون عن زجالنا وراوينا الملهم الا في
كونه قال فأطاعته اللفظة والعبارة وسكتوالأنها خانتهم أو لم تنقد لهم ولكن صمتهم حافل بنفس
مشاعر الحب والحنين.عرفت البلدة –الى جانب بهائها- حكايات رجال وديار قاومت المستعمر
الدخيل ،فملأت النفوس ايمانا وحبا لتلك الربوع
سأكتفي ببعض الملاحظات والاشارات حول نصين –على سبيل المثال- من "ريحة ابلاد.."
العتــبــة
تنبئ "العتبة" بدواعي القول وغاياته، مستحضرة متلقيها المفترض، راجية أن يكون لت"القول"
منصفا متفهما.وهي فعلا عتبة للدخول الى باقي مقاطع القصيدة الكبرى، تنير السبيل،وتكشف
عن سر الهيام ودواعي العشق والغرام،مفعمة بروح صوفية جلية،وظفت فيها معجم الولهى والتائهين في حب ما يريدون،وهم سكارى بخمرتهم الفريدة
أنــا فيه هايم وعليل
مشــوق دايم لـ خليل
جميل هايل وجليل
مالو فـ الكون مثيل
….
أيام محبوبي مـواسم وافــراح
من صابني فـ جنانو جنــاح
نقـيـل بين اغصانو مسا وصبــاح
هذا غزل وهيام ولكنه ليس ككــلام المحبين:
…
احساس رهيف
وخيال رفيف
معنـاه شفيـف
وڱولو عفيف
…
و بـ لاجميل هديتو
ريحة لبلاد سميتو
خضرا الحرة ليلاه
والعالي لعيم الهم مولاه.
أما انت ايها القـارئ أو السامع المنتظر،فكن لبيبا نزيها داعيا بالهدى والستر:
ويا من سمع عليه خبر
كنت عاشق لكلامي ذايق
ولا ناقد نبيه نزيه النظر
نبغيك تعرفو وتشوفو
…
ولا دليت برأيك فيه
نبغيه صايب يغنيه
…
يا سامع ڱولي ونظـر
نرجال لاتكون جاير
وتحكم علي بالظاهر
واحسن بي الظن والنظر
وادعي لي بـ لهدى والستر
ويشوف العالي من حالي
راهي حال
واش من حال
الاستهلال بحمد الله والصلاة على نبيه الكريم يذكرنا بمطالع القصائد الزجلية عند مشاهير
روادها المغاربة،والتي –عادة- ما تنقسم لديهم الى ثلاثة أجزاء:
المدخل : ويشمل الأبيات الأولى
الناعورة : موضوع القصيدة
الردمة : الختام
والسيد عبد المالك يسير على هذا النهج، مع بعض الاختلاف : استهلال ثم عرض لدواعي
القول وما يراد به وله ،وختام يشرح فيه حاله ويدعو قارئه ان يدعو الله له بحسن الحال والمآل.
أوطاني وحدة
كعادته يؤكد منشدنا تعلقه بـ خضرا كما في باقي مقاطع القصيدة الكبرى،منبها –استثناء في
هذا النص- الى انطلاقه من بلدته الصغرى الى الوطن الانساني الشامل، وتكاد تنفرد "أوطاني
وحدة " بهذا الاحساس ،وكأني به قد تنبه الى ما يحتمل من ردود الفعل لدى قرائه وسامعيه
فيستدرك الأمر :
أوطاني شايفها شــلا
بـ النما والرخا والسخا
والعلم والسلم مثلة
لاجساس فيها يختل
ولاعساس بها يقتل
سايسها قايم بـ العدل
ووطــن الشاعـر يختلف عن أوطان الآخرين:
وأوطان الناس يا احباب
أوطان مذاهب واحزاب
وعشاير مشاحنــة وعصايب
ريحهـا ريح جــدوب وخــراب
ويسترسل في ذكر انتمائه ومميزات وطنه العربي المغربي البربري المسلم بقيمه الدينية والفكرية.
ومن نباهته توقعه لأفق انتظار متلقيه ،فضمن النص جوابا على سؤال محتمل.ان القيمة الانسانية
لفكر او ابداع لا تتحقق الا عبر المحلية
يوظف النص والقصيدة كلها لغة متميزة،تمزج بين التركيب الدارج العامي المغربي ،وبين اللفظ
العربي الفصيح المدرج،وهي عامية المثقف المتشبع بأساليب اللغة العربية ،توجه لقراء من نفس
الطينة،ولست في حاجة الى سوق الأدلة لكونها بارزة جلية تدرك لأول وهلة
اضافة الى لغة النصوص،فقد تضمنت النصوص صورا بلاغية قريبة مما عرف في الشعر العربي
الفصيح،وهذا يعود الى الخلفية المرجعية للمبدع.ومعلوم أن أي كلام لا يرقى الى مستوى الشع
الا عبر الخيال في معناه الشامل
أما الجانب الايقاعي في النصوص،فقد حظي بعناية واهتمام بارزين،اذ تحرر من سطوة الموازين
التقليدية،فاسحا المجال لتدفق المشاعر والخواطر والأفكار في تكوين السطور الزجلية،فتتوالى
العبارات القصيرة طورا،وتطول الجمل او السطور طورا آخر.ومعلوم ما للأندلسيين والمغاربة
من باع في هذا الشأن،فأبدعوا أوزان التوشيح، ثم أنشأوا ايقاعات الزجل،وغاية ما توخوا أن يحقق
الكلام عند سماعه أو قراءته جمالية ايقاعية تستهوي النفوس وتستميل المتلقين
عبد الكريم .م